الجمعة، 8 أكتوبر 2010


المسيحية والحضارةد. جورج عوض ابراهيمتعريف الحضارة:يقول وول ديورانت صاحب كتاب "قصة الحضارة":
" الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي وتتكون من عناصر أربعة هى: المواردالاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، والعلوم والفنون. وهى تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما آمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذٍ لا تنفك الحوافز الطبيعية وتستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وإزدهارها "
[1].
الحضارة بصفة عامة تمثل انتصار الإنسان على الجوانب المظلمة الموجودة في ذاته والمجتمع، هى تخطي الإنسان لكيانه البيولوجي، هو فعل الإنسان الواعي وسعيه لتنظيم حياته وعلاقاته مع الوسط المحيط به، إنها تحقيق لقدرات الإنسان المتنوعة وفق منهج ودرجة من العمق. نجد ـ هكذا ـ في الحضارات المختلفة بعض العناصر الثابتة،
مثل:أ ـ تشكيل نظام إجتماعي وطريقة معينة للتفاهم ولغة واحدة.
ب ـ حلول تعطيها الحضارة لاحتياجات الإنسان المعيشية والمتعلقة بالمسكن وتأمين حياته من جهة الموارد الاقتصادية والعمل التقني.
ج ـ نُظم خاصة بالعيش المشترك للوحدة البشرية الأساسية لأى مجتمع: الرجل ـ المرأة لدوام بقاء النوع الإنساني.
د ـ منظومة للوجود المشترك بين الناس،و للوطن،و للعلاقات مع الآخرين.
هـ سن تشريعات قانونية يُحدد بمقتضاها ما هو الخير؟ وما هو الشر؟
و ـ معايشة الاعتقاد الديني عن ما هو "مقدس" في الحياة اليومية على شكل ديني.
هكذا، الحضارة تعطي سلسلة من الاجابات والحلول على ما يحتاجه الموجود البشري، لذا فهى تشكل له هذا الوجود، فتحدد له طريقة المعيشة (النظم الاقتصادية)، أيضًا تحدد له ما هو الخير والشر (الناحية الأخلاقية)، وكذلك البحث عن الحقيقة (فلسفة وعلم)، واعلاء قيمة العدل والمساواة (القوانين)، والجمال (الفن).
هناك تمييز فضّله البعض بين مصطلح المدينة أو التحضر Civilization ومصطلح الثقافة أو الحضارة Culture . فبالمصطلح الأول تُحدد الحضارة التقنية والمادية بينما بالمصطلح الثاني تُحدد الحضارة الروحية (الفكرية).
والانفصال بين الاثنين أُستخدم في الغرب في عصر معين سادت فيه الثنائية بين المادة والروح. لكن في الفكر المسيحي الأرثوذكسي هناك وحدة لا تنفصل بين المادة والروح، لذا فالمصطلحين هما وجهين للعمل البشري الخلاّق.

الحضارة في القراءة العربية:
منذ أوائل القرن التاسع عشر تم ترجمة كلمة Civilization بمعنى "المدنية" حيث تُرجم في عهد محمد على باشا كتاب "إتحاف الملوك الألباب بسلوك التمدن في أوربا "، كما استخدم رفاعة الطهطاوي في كتابه "مناهج الألباب المصرية" مفهوم التمدن في التعبير عن مضمونه الأوروبي ومشيرًا لوجود بُعد التمدن في الدين والشريعة. إذًا المدنية هى حالة من الثقافة الاجتماعية تمتاز بارتقاء نسبي في الفنون والعلوم وتدبير الحكم. لكن ابتداء من الربع الثاني من القرن العشرين تُرجمت Civilization إلى كلمة "حضارة". والجدير بالملاحظة أن الاختلاف بين الترجمتين: المدنية والحضارة هو اختلاف لفظي لأننا نلاحظ أن مفهوم "الحضارة" هو نفسه مفهوم "المدنية" فالمحتوى واحد. فعادةً يربط مفهوم الحضارة إما بالوسائل التكنولوجية الحديثة أو بالعلوم والمعارف والفنون السائدة في أوروبا، أى خلاصة التطور الأوروبي الحالي. وينطلق هؤلاء من أن الحضارة هى جملة الظواهر الاجتماعية ذات الطابع المادي والعلمي والفني الموجود في المجتمع، وأنها تمثل المرحلة الراقية في التطور الإنساني.
الرسالة الإنجيلية:يُعلن لنا الإنجيل أن الجنس البشري ـ الذي كان يعيش بتوجهات وأفكار وحضارات مختلفة ـ أتت إليه لحظة حاسمة فيها دخل الله نفسه إلى واقع البشر التاريخي، فـ " الكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا " (يو14:1). هنا نشأ مركز حيَّ جديد للإبداع البشري، وإمكانية لتفعيل جديد يوجّه الجنس االبشري وكل الخليقة إلى "غاية" جديدة. فدخول ابن الله في التاريخ الإنساني، يعني ببساطة " أن السبيل المسيحي ليس مسألة قبول بعض المبادئ النظرية عن الله، بل هو في الأساس طريق وحياة. الكنيسة في الأساس هى الشركة مع من يكشف كل شئ، خالق الحياة الجديدة، الفادي والمخلّص"[2].
هكذا الجديد هنا ليس مجرد فكرة، أو مبدأ، أو مجرد قول حق يكرز به شخص حكيم (بوذا) أو مجرد نبي يعلن أنه قبل اعلانًا من الله، لكن شخص يسوع المسيح: الإله الإنسان الذي وحّد ـ بطريقة لا توصف ـ الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية، الذي وحّد كل البشرية في شخصه، هذا الشخص الذي ربط التاريخ (الواقع البشري) بالأبدية " لأجلنا ولأجل خلاصنا" صُلب وقام وصعد وسيأتي ثانية ديانًا للعالم. لم يصحح مسيرة البشرية على أساس مبادئ نظرية معينة بل أكد أنه هو "الطريق والحياة"، "القيامة والحياة" (انظر يو25:11ـ26). فالمسيح الذي هو "أمس واليوم وإلى الأبد " (عب8:13) يظل متحدًا بلا إنقطاع بطبيعتنا البشرية وهو نفسه يقودنا إلى غايتنا السامية إلى حياة القداسة والكمال. هنا توجد نواة الإنجيل.
إنجيل المسيح يغير جذريًا الطبيعة البشرية ويغرز فيها قوة التغيير: من إنسان ساقط منعزل إلى إنسان جديد يصنع شركة مع الله. فالمسيح هو قوة الله وحكمة الله (1كو24:1) لكل الذين يؤمنون به بغض النظر عن الحضارة التي ينتمون إليها. ويظل الإنجيل يحمل قوة بالرغم من إخفاقات المسيحيين في تطبيق رسالته. فالإنجيل في جوهره يظل هو المعيار لأي جماعة مسيحية موجودة. لكن نحن نتكلم عن الإنجيل كما فهمته الكنيسة وليس عن إنجيل آخر من نتاج خيالات بشرية مريضة. لذا أى تجديد يحدث لجماعة مسيحية يأتي من إعادة العثور على نواة الإنجيل كما فهمتها الكنيسة ـ والمعبرون الصادقون عن الإنجيل ليس هم العارفون بنصوص الكتاب المقدس بل أولئك الذين يحيون سر الإنجيل في حضور الروح القدس الذي ينير عيون أذهانهم ليتمسكوا بالحق، هؤلاء يشعون بالمجد الإلهي والمحبة بسلوكهم وأعمالهم.

الحضارة من منظار مسيحي:
القول بأن الحضارة هى تحقيق بشري بينما رسالة الإنجيل هى تدخل إلهي، هو قول بسيط واضح ولكنه لا يكفي. فغير المعقول أن نُسلم بأن الحضارة تمثل نتاج محاولات من البشر القابعون أسفل، بينما الرسالة المسيحية هى من فوق، نتاج إلهي أى من الله الساكن في أعلى السموات. فالحضارة كإنجاز إنساني لا توجد خارج إشعاعات الأعمال الإلهية. فالإنسان الذي صنع الحضارة هو إنسان مخلوق "بحسب صورة الله" وأفعاله هذه ليست خارج إمكانيات الخلق "بحسب صورة الله" حتى بعد السقوط. لأننا نعلم من آبائنا القديسين ومعلّمي الكنيسة أن الإنسان بسقوطه لم يُدمر تمامًا الخلق "بحسب صورة الله" بل حدث بحسب تعبير القديس أثناسيوس "تشويه" لهذه الصورة. إذًا لم يتوقف تمامًا الإنسان على أن يكون مخلوق "بحسب صورة الله". وبالتالي أفعاله الصادقة والبناءة لا تخرج من دائرة عمل الله، ونسمة الروح القدس. هكذا عمل الإنسان الإبداعي هو تطبيق للإمكانيات التي أودعها الله في الإنسان منذ خلقته
[3].
لقد ظلّ الإنسان قابلاً لمشورة الله ولأفعال الروح القدس (من الخارج). فالحضارة مرتبطة بإبداع الإنسان، وهذه الإمكانية الإبداعية
قد وضعهما الله في الإنسان كما قُلنا منذ الخلق. وفي سفر التكوين نجد أن الله أعطى الإنسان:1 ـ أن يعمل ويحفظ الفردوس (العمل التقني)
2 ـ أن يُسمي الحيوانات (تك15:2ـ19) (اللغة ـ التواصل)
هنا نجد عنصرين هامين يعملهما الإنسان: العمل ويربطها "تيليك" بالتكنولوجيا وأما تسمية الحيوانات يربطه باللغة
[4]. أيًا كان تفسير تيليك، فالمهم هو أن الإنسان أُعطى له مهمة أن يعمل وأن يكون مسئولاً عن بقية الخليقة. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يُبدع ويصنع حضارة وتاريخ بيينما الكائنات الأخرى (الحيوانية مثلاً) تخضع لما هو موجود وتتكيف معه ولا تستطيع أن تبدع وتصنع حضارة. هكذا إبداع الحضارة هو الاختلاف الجذري بين الإنسان والحيوان. فالإنسان دائمًا في حالة استفزاز من البيئة المحيطة المفروضة عليه، هو دائمًا في حالة إبداع، ينزعج من الموجود ويريد أن يبدع عالمه الخاص، لقد عاش هذا المخاض كل الفنانيين العظام، فمايكل أنجلو على سبيل المثال، كان يردد قائلاً: متى ينتهى عملي مع هذا المرمر (التمثال)، حتى أستطيع أن أتفرغ لعملي الخاص؟ ونفس الأمر كان يحدث مع بيكاسوا. إن دعوة الإنسان ليست هى مجرد أن يعيش داخل العالم، قانعًا بالأشياء التي حوله كما هى، لكن أيضًا لكي يستخدم العالم ويطوره ويشكّله، ولا يكتفي بهذا، بل يرى العالم كعطية من الله، لذا يقدم مرة أخرى هذه العطية الإلهية إلى العاطي كافخارستيا. فالإنسان خُلق "بحسب صورة الله ومثاله" (تك26:1) وهذا له علاقة مباشرة مع مفهوم التسلط على "سمك البحر وطيور السماء والوحوش وكل الأرض" (تك28:1). إذ مارس آدم سلطانه بإعطاء اسم لكل المخلوقات الحية (تك19:2). هنا نرى مباشرة الإنسان يُشكّل بيئته الطبيعية، ويعطي مفهومًا وإتجاهًا للأشياء التي توجد حوله. فعندما يوجد شئ ليس له اسم يظل غير محدد وبلا شكل، ولا يخطر هذا الشئ على تفكيرنا ولا نستطيع أن نستخدمه. لكن مجرد أن تعطى اسمًا لشئ مباشرةً، تحدد علاقته معنا، ونحن عندما نعطي اسمًا لشئ، فلكي نميزه عن بقية الأشياء المحيطة بنا ونبدأ بعدها في فهم طبيعته المميزة. إذًا أن نعطى اسمًا لشئ يعني أننا أعطيناه مفهوم ومعنى لم يكن لديه قبلاً. هكذا لأننا مخلوقين بحسب "صورة الله ومثاله" فنحن نشترك في العمل مع الله (1كو9:3) بالفن والشعر وبالتكنولوجيا والبحث العلمي ونجمل الخليقة المادية ونجعلها قادرة على أن تمجد الله. إذًا الحضارة ليست نتاج بشري صرف بل هى إبداع وهبة من الله. والحضارة مرتبطة بالأصالة الإنسانية كما أرادها الله وأودع في الإنسان الإمكانية لصنعها منذ الخلق. ولكن بسبب السقوط إنزلق الإنسان بعيدًا عن غايته الأصلية ودخلت عناصر سلبية في صُنعه للحضارة. لأن قوته الإبداعية فقدت صلاحها وتمحورت حول ذاته. واحتاج الإنسان لعلاج جذري ليسترد عافيته فأتى الله نفسه وتجسد في المسيح يسوع لكي يعيد خلقة الإنسان مرة أخرى ويجدد فيه كل الإمكانيات التي بمقتضاها يستطيع أن يشفي ـ بدوره ـ الحضارات الإنسانية التي أصابها المرض في الجزء الأكبر منها.

موقف المسيحية من الحضارات:
إنطلاقًا من الإيمان بأن الله لم يترك الإنسان ولم يكتفي بالسكنى في سماء لا يُقترب منها ـ كما تزعم بعض الديانات الأفريقية
[5]. وهذا الموقف من الله يبين أن مسيرة البشرية كانت تحت بصر ونظر الله. لقد عقد عهود مختلفة منذ سقوط الإنسان: مع آدم وحواء ممثلي الجنس البشري كله ثم مع نوح والجماعة البشرية التي أُنقذت بالطوفان، كذلك مع ابرآم كرئيس شعب سوف يأتي منه المسيح، ثم مع موسى قائد ومشرع إسرائيل، والذي إضطلع بدور خاص في خطة الله الخلاصية. والحضارات نمت وامتدت في هذا المجال. أما الموقف اللاهوتي الذي يؤخذ تجاه حضارات أخرى يعتمد على مدى فهمنا للتدين البشري خارج الإطار الكتابي. فالواحد وعشرون حضارة التي حصرها توينبي Toynbee نمّت على أساس التدين والميل ناحية العنصر "المقدس"، لذا ـ كما قلنا ـ الفهم الصحيح لهذا التدين هو مفتاح هام لوقف صحيح تجاه الإبداعات الحضارية. موقف الغرب البروتستانتي تجاه الإبداعات الحضارية المؤسسة على التدين غير الكتابي يتأرجح بين الرفض المتطرف (على سبيل المثال: التعاليم اللاهوتية لكارل بارث Barth) والقبول المطلق (على سبيل المثال Otto, Heiler, Benz). أما بخصوص الكنيسة الأرثوذكسية، ففي العصر الآبائي دخلت في حوار عميق مع الحضارات ولم تعطى فرصة للآخرين بالقيام بهذا الدور. لم يتخذ الآباء موقفًا نقديًا تجاه الحضارة اليونانية بل تعمقوا في نسيجها، الأمر الذي جعلهم يكتشفون أرضيات مشتركة مع هذه الحضارة. على سبيل المثال بالنسبة للعبادة: قبلت الكنيسة عددًا من العناصر كانت في الحضارة اليونانية، فعمدت إلى مسحتها كالأعياد الطبيعية والاحتفالات وهذا ما حدث أيضًا بالنسبة للكنيسة القبطية وموقفها تجاه الحضارة المصرية القديمة. أما على مستوى الفلسفة فإن كل الأسئلة التي أثارها العقل اليوناني اعتبرها الآباء واردة وأعطوا لها حلولاً، بالإضافة إلى اهتمام هذا العقل اليوناني بالميتافيزيقا وهذا في الأساس غريب عن الكتاب المقدس والتراث السامي[6].
وكانت المصطلحات اليونانية تُستخدم في نطاق اللاهوت بدون تردد. وقد اعتمدت اللغة اليونانية في البقاع التي لا تتكلم بها. وهذا ما حدث عندنا في الكنيسة القبطية، الأمر الذي يستطيع أى أحد أن يلاحظه بسهولة في صلوات الكنيسة ونصوصها الليتورجية الممثلة بالمصطلحات اليونانية. واستخدام اللغة اللاتينية في الغرب لم يطرح أية مشكلة على مستوى وحدة الكنيسة. الأمر الهام في كل هذا، أن الإنجيل حافظ على جوهرة ورسالته وتوجههالأخروى على أساس قيامة المسيح وصورة المسيح وصورة الملكوت المحققة في سر الافخارستيا.
والقديس والشهيد يوستينوس (+165م) كان له موقفًا أكثر تفاهمًا مع الإبداعات الحضارية غير الكتابية بمناداته بـ "بذرة اللوغوس"
[7]، كذلك كليمندس الأسكندري (+215م) اعتبر أن الفلسفة اليونانية هى تمهيد تربوي للراحة في المسيح[8]. والمؤرخ الكنسي )يوسابيوس القيصري (+339م يشدد على مسكونية الاعلان الإلهي في كل الأمم وكل البشر وأن هناك شعورًا دينيًا مغروسًا فيهم. ويعتبر هذا المؤرخ أن الذين يتوقون إلى الله هم "شهود" "للبر" مثل المسيحين[9]. والقديس غريغوريوس اللاهوتي يؤكد على أن الإنسان المخلوق "بحسب صورة الله" لم يفقد نهائيًا جنسيته الإلهية، لذا إبداعه في المجال الحضاري يتعلق بشوقه إلى الله[10]. فإنجازات الفكر الإنساني لا توجد خارج خطة ومعونة ومحبة الله. عمومًا في الشرق المسيحي تأسس موقف الكنيسة على تأكيد بطرس الرسول: " بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه. بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده " (أع35:10)، وكرازة بولس الرسول: " به نحيا ونتحرك ونوجد " (أع24:17ـ28). فكل العناصر البشرية تتحرك في مجال تأثير شمس البر. التفائل والأمل في الخبرة المسيحية الشرقية تستندان على أن مجد الله امتد وشمل كل العالم. إن جوهر الله لا يُدنى منه وغير معروف لكن أفعاله غير المخلوقة ومجده يملأ السماء والأرض.
ليس معنى ذلك أن الرسالة المسيحية كان لها موقفًا إيجابيًا فقط تجاه الحضارة، بل علينا أن نعرف أن الموقف الإيجابي كان تجاه العناصر الإيجابية الموجودة في الحضارة. وكان هناك موقفًا رافضًا بل مهاجمًا للتقاليد الوثنية، فأخذ الآباء ينتقدوا ويشجبوا الحضارة الوثنية وتصدوا لها بجسارة. لكن كانوا في نفس الوقت منفتحين على ما هو إيجابي من جهة الاعداد لتفسير البشري السارة. وقد كتب القديس باسيليوس الكبير رسالة "إلى الشباب" يدعوهم للإستفادة من الأدب اليوناني علينا أن ننتبه جيدًا لما قاله البروفيسور قسطنطين سكوتيريس بخصوص موقف الكنيسة تجاه الحضارة اليوم: " إننا نعيش في حقبة من التاريخ باتت فيها المنجزات الإنسانية أمورًا مطلقة لا بل مؤلهة، زماننا هو زمان صنمية جديدة أو وثنية جديدة، حيث إن الإنسان الذي هو دون المقاييس المدنية القائمة، يعتبر مخلوقًا دون (أو ذا قيمة متدنية). وأعتقد أن هذا مشكلة ليس فقط لمجتمعاتنا المدنية، بل هو مشكلة لكنائسنا الحاضرة. والعديد من المشاكل التي تواجهها كنائسنا ترتبط بعقلية تجعل الحضارة المرهونة في قمة الإهتمامات والقيم. وينسى المسيحيون عادةً أن الحضارة يمكنها أن تكون الوسيلة إلى فهم مسيحي، إلاّ أن هذه الحضارة لا يمكنها في أى حال، أن تكون البديل عن رسالة الإنجيل. ومن واجبنا كمسيحيين أن نواجه السؤال ومن واجبتنا المهمة أيضًا أن نقرأ أن تقدير مفرطًا للمنجزات الحضارية من شأنه أن يجعل الإنسان أسيرًا وعبدًا لمنجزاته وتطلعاته. وإذ نجعل الحضارة في مركز كل نشاط إنساني، وهدفًا وأرضية للوجود الإنساني، إنما نعمل على تغريب الإنسان عن نفسه. وفي هذه الحالة نحن نفصل الإنسان عن إنسانيته العامة، ونفصله عن الله وعن اخوته وعن طبيعته أيضًا "
[11].إذًا عندما تتقابل الكنيسة مع حضارة معينة تمضي في ثلاث مهمات أساسية:الأولى: تقبل الكنيسة كل العناصر الإيجابية والتي تتفق مع رسالة الإنجيل.
الثانية: ترفض عناصر أخرى (وثنية) لا تتفق مع رسالة الإنجيل.
الثالثة: تنقل دم جديد وروح جديدة لهذه الحضارة.
أما الإخفاقات التي إنتابت اليوم حاملي الرسالة المسيحية بحسب رأى المطران يوحنا زيزيولاس
[12] تتلخص في الآتي:1 ـ ثمة إخفاق على صعيد العالم بعمق وحق، إذ حدث خلطًا بين الإنجيل والقيم الحضارية والإثنية في بعض الأزمنة. وفي حالات كثيرة اختلطت الإرساليات المسيحية بدعوة قامت على فرض المسيحية على شعوب لم تكن مسيحية، دون مراعاة للخصوصيات الحضارية عند تلك الشعوب.
2 ـ تبني لغة دفاعية وحقدًا بين المسيحيين أنفسهم مما سبب تقسيم مأسوي في المسيحية نفسها. هناك عجز من البعض عن تجاوز سيكولوجية الدفاع بروح من الحب والتسامح الأصيل.
3 ـ كان هناك إخفاق في تفسير الإنجيل بعبارات حياتية. فالأصولية والمحافظة والمجاهرة قتلت الكتاب المقدس وعقيدة الكنيسة، وذلك بتحويل كل شئ إلى مجرد صياغات للحفظ بدل أن تعاش وتختبر.
4 ـ تسرب النزعة القومية والتيارات الأثنية إلى الكنيسة.

خاتمة:
الإنجيل يُقبل ويتجلى ويتجسد في ظروف جديدة، ويُعيد خلقة أى حضارة ـ في الروح القدس ـ معطيًا إياها محتوى كياني جديد. الحضارة التي يخلقها الإنجيل لا تتطابق مع مكان معين وشعب معين. فالإنجيل لا يصبح في دائرة مغلقة. فإنه مفتوح دائمًا نحو المجموعات البشرية. لا يطلب الإنجيل تغييرًا في الشكل الخارجي ولا ينادي بالتشبه بشكل معين لكن يطلب أن يكون الفكر واحدًا والنفس واحدة. فكل شعب يحتفظ بهويته وبخصوصياته يمكن له أن يعايش "الثوابت الإنجيلية. التجديد المستمر هما بمثابة قوة الإنجيل المسيحي. لا يحق لأي حضارة أن تأسره، ولا لأي مجموعة منغلقة على ذاتها تهيمن عليه.
على الجانب الآخر إننا ننتقل بسرعة فائقة نحو عالم تعددي من الوجهة الدينية، الأمر الذي يجب علينا كمسيحيين أن نقلع عن المناهج العدائية في التبشير، فالكرازة بالإنجيل لا يجوز أن تكون بإكراه من أى نوع. إن الكنيسة كجسد المسيح هى الطريق الوحيد المضمون والأكيد الذي يقود إلى الله. ونحن المسيحيين لا نستطيع أن نقترح سبيلاً أفضل إلى الخلاص غير الذي نعرفه. لذا نتمسك بهذا الإيمان.
[1] وول ديورانث: قصة الحضارة ـ الجزء الأول.[2] البروفيسور قسطنطين سكوتيرس، يسوع المسيح والحضارة، حوليات 4ـ5 ـ معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي جامعة التلمند 2003، ص226.[3] انظر ن. براتسيوكوس، أنثربولوجية العهد القديم، جزء 1: الإنسان مخلوق إلهي، أثينا 1967 (باللغة اليونانية).[4] انظر قسطنطين سكوتيرس، المرجع السابق، ص231.[5] A. Gianoul£tou, Pouc£n'gka O DhmiourgÒj. Sumsol» eij t»n šreuna tîn per… qeoà kai anqrèpou afrikanikîn doxasiîn, AqÁnai 475.[6] انظر يوحنا زيزيولاس، الكنيسة الأرثوذكسية في الألفية الثالثة، حوليات 2ـ3، معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي جامعة التلمند 2001، ص294.[7] الدفاع الأول 3:13: BEPES 3, 207[8] المتفرقات 5:1 PG 8, 728A, BEPES 7,247[9] تاريخ الكنيسة الجزء الأول: 59,227 BEPES 59و227[10] غريغوريوس اللاهوتي: BEPES 59, 227 PG 36, 45.[11] المرجع السابق، ص234ـ235.[12] المرجع السابق، ص291ـ293.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق