السبت، 30 أكتوبر 2010


الصحة والمرض في التقليد الكنسي
د. جورج عوض إبراهيم

مقدمة :
يربط العهد القديم كل مرض بسبب معين، لذلك فان العهد القديم أعطى انطباعًا بأن المرض ليس هو نتيجة طبيعية لانتهاج أسلوب حياة ما لكن عقاب على الخطية فُرض من قبل الله على الإنسان. إن المبادئ الأولى للفكر الشفائي والذي يبحث في إيجاد سبب لكل مرض يرجع إلى التأثيرات المصرية واليونانية. لكن نجد عند الأنبياء العظام أطباء وأدوية تشفى الجراح (إش7:3، إر22:8)، وفى حكمة سيراخ أعطى قوانين للصحة. كما أعطت في تعاليم الربانيين اليهودية أهمية عظمى للأعشاب كوسيلة للشفاء، مثل الزيت والخمر (لو34:10). كما أن الأمور الجراحية والتشريحية قد نظروا إليها (اليهود) بكل تقوى، لكن ظلَّ الطبيب الحقيقى والفريد هو الله. إن تحديد العلاقة بين القوة الإلهية الخلاقة والمهارات الإنسانية هى صعبة لكن ظل الاتجاه لاستخدام الاثنين مع التشديد على القوة الإلهية. وهكذا فإن الصلاة هى الطريقة الأساسية للشفاء ، والشرط الضروري للشفاء هو غفران الخطايا والذى يستلزم توبة ورجوع إلى الله . وهكذا فإن الشفاء وغفران الخطايا مرتبطان ارتباطًا مباشرًا (إش10:6، مز2:6، 2:29، 5:40)، " الذى يغفر جميع ذنوبك الذى يشفى كل أمراضك " (مز2:103). وهنا يشفى تشير إلى مدى إحسان الله من أجل خلاص الإنسان. فالشفاء الجوهرى هو إعادة وتصحيح العلاقة بين الإنسان والله، لذا يصلي الكاهن مترجيًا: [ أطلع أيها المتحنن من سمائك المقدسة، وحلّ في عبدك المعترف بزلاته، المقبل إليك بأمانة ورجاء. وأغفر له غلطاته، إن كان بالفعل أو بالفكر. طهَّره من كل خطية، وأحفظه بقية زمان حياته سالكًا في وصاياك، لكي لا يفرح به العدو دفعة أخرى. وبهذا يتمجد اسمك القدوس] . هذا والشفاء (النفسى والجسدى) أيضًا يؤسس على مقدرة الإنسان فى أن يغفر (حكمة سيراخ3:28)، وهذا هو هدف قراءة البولس من كولوسي (12:3ـ17) في الصلاة السادسة في سر مسحه المرضى، إذ ينصحنا قائلاً: " فالبسوا مثل أصفياء الله المطهرين الأحباء مراحم، رأفات، صلاح، وتواضع قلب، دعه، وطول روح. تحتملون بعضكم بعضًا. وإذا كان لوم بين واحد وآخر منكم فكما غفر المسيح لكم كذلك أنتم أيضاْ.." (كو12:3ـ17)، وكذلك قراءة الإنجيل لنفس الصلاة من (لوقا36:7ـ50)، والذي يبين موقف المرأة الخاطئة التي سكبت الطيب على قدمي المسيح، إذ أحبت كثيرًا، فغفر لها كثيرًا، لذا وبخَّ المسيح سمعان الفريسي ممتدحًا عمل المرأة قائلاً: " إن خطاياها الكثيرة مغفورة لها لأنها أحبت كثيرًا ". فبينما الرؤساء غير الأتقياء يهملون العمل الذى وضعه الله للاهتمام بالضعفاء والمنسحقين (أر14:6)، نجد الخدام الحقيقيين يعرفون جيدًا أن الله قد وضع لهذا العمل "روح الرب على لأن الرب مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأعصب منكسرى القلب لأنادى للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق " (إش1:61)، ولذلك يصلي الكاهن في أوشية المرضى قائلاً: [ تعهدهم بالمراحم والرأفات، أشفهم. أنزع عنهم كل مرض وكل سقم، وروح الأمراض أطرده. والذين أبطئوا مطروحين في الأمراض أقمهم وعزّهم، والمعذبون من الأرواح النجسة أعتقهم جميعًا. الذين في السجون أو المطابق. أو الذين في النفي أو السبي، أو المقبوض عليهم في عبودية مرة، يا رب أعتقهم جميعًا وأرحمهم. لأنك أنت الذي تحل المربوطين وتقيم الساقطين] . إن فيلون اليهودي قد آمن بهذه الأفكار، إذ نادى قائلاً: " عندما يأتى على الذهن التفكر في الله، مباشرة يتبارك ويشفى من كل الأمراض" .

إن يسوع المسيح يقرّ بعلاقة المرض والخطية (مر5:2)، (يو14:5) وفى نفس الوقت قد حررّ هذا الارتباط من أي مفهوم للانتقام، قد حرره من الفكر أو الاعتقاد بأن المرض هو نتيجة خطايا أناس أشرار، مشددًا على أن الإنسان الأكثر تقوى هو خاطئ يكفى أن به أعراض مرض جسدي ونفسي (يو4:11)، (لو1:13 وفيما بعد) وهكذا وضع المسيح المرض تحت نور جديد تمامًا. على الجانب الآخر فإنه من الواضح، في العهد الجديد، أن الأمراض المستعصية هي بمثابة حالات مرضية تتعارض مع خطة الله في الخلق، لذلك في طلبة الصلاة الأولى لسر مسحة المرضى يصلي الكاهن قائلاً: [ أيها السيد الرب يسوع المسيح ملك الدهور، مخرج كل الموجودات من العدم إلى الوجود (الخلق) ما يرى وما لا يرى، الذي جاء بإرادته وبكثرة رحمته قد تنازل بالتدبير (التجسد)، ليخلصنا من موت الخطية وغلبة المضاد. السريع الإحسان، والمتأني في العقاب، المخيف مرارًا كثيرًا من أجل الخيرات العتيدة. أذكر يارب مراحمك... وامنح الشفاء لعبدك هذا الذي التجأ تحت ظلال كنفك لأنك أنت محب البشر ] . وبناء على ذلك فإن العهد الجديد يستنكر أى فكر يضاد محاولات الإنسان لكى يتحرر من هذه المتاعب، إن فعل الشفاء الذي قام به السامري الصالح في (لو34:10) كان معروفًا آنذاك فى اليهودية والسامرة. ويؤكد ذلك ذكر عدد 14 من رسالة كولوسى 4 " يسلم عليكم لوقا الطبيب الحبيب وديماس " وأيضًا نصائح بولس لتيموثاؤس " لاتكن في ما بعد شّراب ماء بل استعمل خمرا قليلا من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة " (1تيمو23:5). كذلك كانت صورة المسيح كطبيب منتشرة ومعروفة في التقليد الكنسي، وكل الأناجيل تستخدم فعل "شفى" والذى تخص عمل المسيح خاصة في (لوقا17:5، 19:6)، (أع38:10،...). إن مصطلح "شفى" أستُخدم أساسًا في (لوقا32:13) بينما استخدامه ضمنياً صار في مقاطع من نصوص أخرى. إن المسيح نفسه يعلن عن ذاته كطبيب في حالات كثيرة، وهذا في معناه العميق يجب أن يفهم على أن هذا يخص حدث الخلاص [ يا طبيب المرضى وغافر الخطايا، المنقذ من الشدائد كل الآتين إليك. يا ميناء الخلاص من حركات الأمواج وهياجها . أصنع رحمة مع المتضايقين بالأمراض، ونجهم من الموت الرديء ] .

المرض كتهذيب إلهي
إن الصحة في العهد القديم هي جزء من الحياة التي هي عطية من الله، فعندما صلى حزقيا الملك إلي الله لكي تُرد صحته، قد أشار هذا الحدث على أنه لا توجد فجوة بين الحياة الطبيعية والتي إليها تنتمي الصحة وبين الحياة أمام الله، والاثنين هما مرتبطان ارتباطًا لا ينفصل.
أن الصحة التى يقدمها المسيح هى صحة الإنسان كله (يو7: 23)، لكن فى العهد القديم، المرض يقدم من أول وجه كعقاب بسبب خطايا الإنسان.
يعلق يوسابيوس القيصرى على كلام إشعياء قائلاً : [ بالرغم من أن بعض الخطايا التى حدثت هى بسبب الضعف الإنسانى إلاّ أن الله أحزن أولئك الذين أخطئوا وعاقبهم مثل الأب الذى يؤدب أولاده " لأن ذاك الذى يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله " لكن بسبب أنكم أحسستم بتربيتى وحزنتم حزناً شديدًا بحسب الله ومشيتم وتجهمتم نادمين، لذلك وأنتم ترون رجوعكم وتوبتكم وأعمالكم وطريقة حياتكم بعد هذا، أشفيكم وأريحكم معطيًا إياكم الراحة الحقيقية] .

يتضح من هذا النص أن التوبة تعنى تغيير طريقة الحياة، والتى بها يتحقق الشفاء. يقول هيبوليتس إن الله [ يستميل الذين لا يؤمنون، بأمراض وبمتاعب ] . أيضًا الأب ديداخوس فوتيكوس يقول: [ كما أن الشمع إن لم يلين لا يمكن أن يقبل الختم الذى يوضع فوقه، هكذا الإنسان إن لم يجرب بالآلام والأمراض لا يمكن أن يتسع لختم فضيلة الله. لذلك من جهة يقول الله لبولس العظيم " تكفيك نعمتى لأن قوتى فى الضعف تكمل ". ومن جهة أخرى يصرخ الرسول قائلاً: " فبكل سرور أفتخر بالحرى في ضعفاتي لكى تحل علىّ قوة المسيح" (2كو12: 9)] . وعلينا أن نتذكر أن نص سر مسحة المرضى يصف المسيح قائلاً: [ السريع الإحسان، المتأني في العقاب، المخيف مرارًا كثيرًا من أجل الخيرات العتيدة] . لكن هل هناك تناقض بين ما قيل سابقًا وما يقوله الرسول يعقوب " لا يقل أحد إذا جُرِّب إني أُجرَّب من قِبَل الله لأن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحدًا. ولكن كل واحد يُجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبُلَت تلد خطية والخطية إذا كمُلَت تنتج موتًا " (يع1: 13ـ15)؟ ويعلق القديس كيرلس الأورشليمى على نص يعقوب الرسول هذا مؤكدًا بأن المسيح هو الطبيب الذي يشفى أولاً النفس ثم بعد ذلك الجسد وليس العكس بتاتًا لأنه يقول: " لا تعود تخطئ لئلا يكون لك أشر"، إنه يوجه كلامه لنا جميعًا، فإذا سقطنا في أوجاع وآلام كثيرة لا ننسب كل هذا إلى الله لأن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحد .
إن العلامة أوريجينوس يشرح التناقض الذي يبدو ظاهرًا فى أقوال العهد القديم قائلاً: [إن كلام الله يحقق بالضرورة "القلع والنقض والهلاك" وبعد ذلك "البناء والغرس" (إرميا1: 9– 10)، ودائمًا يؤكد الكتاب المقدس على الأمور التي تبدو عابسة، ويذكرها أولا وبعد ذلك يذكر الأمور التي تبدو مفرحة " أنا أُميت لكي أُحي " لم يقل " أنا سوف أعمل لكي أُحي" وبعد ذلك "سأميت"، لكن " أنا أميت وسأعمل لكي تحيا ". من سأقتله؟ " شاول الخائن، شاول المضطهد " وسأعمل لكي يحيا " لكي يصير بولس رسول يسوع المسيح ". لو فهموا هذا الذى أقوله هؤلاء المُتعبين الذين يأتون من الهرطقات، فلن يقولوا لنا دائمًا أرأيتم إله الناموس كم هو متوحش وغير إنساني ويقول " أنا أُميت وسوف أعمل لكي تحيا " .
هكذا يبدأ بالكلام الأكثر حزنا والذي هو ضروري، مثل "سأميت" وبعد ذلك طالما أمات "سوف أعمل لكى تحيا، سوف أضرب وسوف أشفى " (تث32: 39)، لأن " الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله " (عب6:12). أولاً يضرب وبعد ذلك يشفى " لأنه هو يجرح ويعصب يسحق ويداه تشفيان " (أيوب5 :18). يجب أن يقتلع الشر من الأساس، يجب أن يحرق بناء الشر من نفوسنا، حتى تبنى كلمات الله و تتجذر، لأنة لا يمكن بغير ذلك أن أفهم هذا الذي قد كتب " أعطى كلامي في فمك " ماذا تفعل هذه الكلمات ؟ " لتقلع وتنقض وتهدم " الكلمات تقلع " الأمم "، والكلمات تنقض "الممالك" لكن ليست الممالك العالمية والجسدية ] .

يستخدم العهد القديم لغة مناسبة لإنسان عصره، يصف المرض على أنه عقاب من الله، لأنه بذلك فقط يستطيع أن يحمى إنسان ذلك العصر من نتائج أفعاله المدمرة. وأيضًا في العهد القديم يشدد على أن الإنسان يمرض بسبب أنه يخالف نواميس الله, التي تطلب من الإنسان أن يحيا بطريقة تتفق مع طبيعته. وهكذا فإن العهد القديم يلمح على أن الإنسان يمرض لأنة يخالف وصايا الله إذ يختار العيش بطريقة معاكسة لطبيعته: " لكن إن لم تسمعوا لى ولم تعملوا كل هذه الوصايا. وإن رفضتم فرائضي وكرهت نفوسكم أحكامى ... فإنى أعمل هذه بكم أُسلط عليكم رعبًا وسلاً وحمى تفنى العينين وتتلف النفس " (لا26 :14-16)، أنظر أيضًا (تث28: 15، 21، 22، 27، 28، 35).

إن الإنسان، وهو مخالفًا وصايا الله، قد أخلّ بنظام الخلق وبالتالي كابد نتائج اضطراب النظام الكوني، وهذا ما يؤكده القديس غريغوريوس النزينزى: [ الكل قد زُين بنظام والمنظم هو اللوغوس ... إذن بنظام قد تكوّن الكون... ومن جهة عندما يحفظ الإنسان النظام، فالكون يمثل تحفة وجماله لا يتغير، ومن جهة أخرى فإن الفوضى واللا نظام يُحدث صواعق فى الهواء، زلازل فى الأرض، فيضانات فى البحار، الحروب فى المدن وبين الأهالى، والأمراض فى الأجساد... كل هذا... اضطراب وفوضى... لأن النظام يربط أما الفوضى تحل ] . وهذا هو الهدف الذي من أجله تصر الكنيسة على الصلاة من أجل: المرضى والمسافرين ومن أجل الأثمار والرئيس والراقدين والموعظين وذلك أثناء ممارسة سر مسحة المرضى، وكأنها صلاة من أجل كل الكون الحامل للمرض وذلك بسبب السقوط. وهكذا عندما يخالف الإنسان وصية الله يؤذى طبيعته، والمرض هو نتيجة هذا السلوك المضاد لطبيعته. خلق الله العالم لكى يستخدمه الإنسان بطريقة معينة، وعندما لا يستخدمه هكذا كما تتطلب طبيعته، فالكون بدلاً من أن يقوت الإنسان، يؤدى إلى موته .

السقوط والمرض
بناء على القراءة المتأنية للعهد القديم فإن المرض هو نتيجة خطية الإنسان، بمعنى أن الإنسان يمرض لأنه ينتهك طبيعته، وأيضًا يُفسد طبيعة مخلوقات الله الأخرى. أما بحسب العهد الجديد، فإن المرض يتعارض مع قصد الله الخالق، ويرجع إلى تأثير القوات الشيطانية، عمومًا توجد علاقة بين الخطية والمرض والتى تعلن فى حالات معينة (متى22:12 وفيما بعده، لوقا16:13، يوحنا14:5، رومية20:8، 1كو30:11) لكن المسيح يتخطى الاعتقاد السائد للعقاب "لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه" (يو3:9)، وقدَّم شفاء وغفران. بالنسبة للمؤمنين فإن المرض في هذا الدهر هو تربية خلاصية حيث تستخدمه المحبة الأبوية، بدون أن يكون هذا المرض هو من نتاج هذه المحبة، ضد الخطية: "ولكن إذ قد حُكِمَ علينا نؤدب من الرب لكي لا نُدان مع العالم" (1كو32:11)، " لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا" (2كو17:4).
إنتهاك الطبيعة من جانب الإنسان بنتائجها الوخيمة عليه هي مُعلنة في طعامه: حكمة سيراخ 19:31ـ22: "ما أقل ما يكتفي به الإنسان المُتأدب وعلى فراشة لا يلهث: رُقاد الصحة لقنوع الجوف. يقوم مُبكرًا وهو مالك نفسه. السُهاد والتقيؤ والمغص للرجل الشرة. وإذ أُكرهت على الإكثار مِن الأكل فقُم وتقيأ فتستريح. إسمع لي يا بُني ولا تستخف بي وفي آخر الأمر تهتدي إلى أقوالي. في جميع أعمالك كُن معتدلاً فلا يلحق بك مرض". يقول ذهبي الفم: "ونحن لا نتفوق على الحيوانات غير العاقلة فقط في أننا لدينا نفس عاقلة لكن في أننا نمتاز من جهة الجسد. لأن هذا الجسد قد صنعه الله وفق دماثة النفس، ومناسب لكي يحفظ وصاياها، لأن الجسد صنعه حتى يكون مناسب لكي يخدم النفس العاقلة، لأنه إن لم يكن هكذا سوف تُعاق بشدة مفاعيل النفس"، "لا يقال إذن الجسد الإنساني إنسان لكن المحصلة التي يتكون من الاثنين. وأحيانًا أيضًا قال لهم المسيح: "أفتسخطون علىَّ لأني شفيت إنسانًا كله في السبت" (يو23:7). مفهوم الإنسان كله يُظهره في الأناجيل الأخرى في ذاك الذي أنزلوه أمامه على السرير قائلاً: "مغفورة لك خطاياك" (لو2:5)، وهذا هو شفاء النفس وقائلاً بعد "قُم وأمشي" (مت5:9)، وصية ترمي إلى الجسد. في إنجيل يوحنا يظهره كالآتي: عندما أعطى الصحة للجسد وطالما حررَّ أيضًا النفس من المرض ذاته، قال: "ها أنت قد برئت. فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر" (يو14:5)، من هنا نستنتج أن الشفاء كان للاثنين، أقصد النفس والجسد" .

فالمسيح عندما يشفى، فإنه يشفى كل الإنسان: يقول القديس أثناسيوس الرسولي وهو يستشهد بما حاء في سفر أشعياء: " لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها" (إش4:53).]وحسنًا قال النبى "حملها" (إش4:53، مت17:8) ولم يقل إنه " شفى ضعفاتنا " لئلا إذ تكون هذه الضعفات خارج جسده هو، وهو يشفيها فقط ـ كما كان يفعل دائمًا فإنه يترك البشر خاضعين للموت، ولكنه حمل ضعفاتنا، احتمل هو نفسه خطايانا، لكى يتضح أنه قد صار إنسانًا لأجلنا، وأن الجسد الذى حمل الضعفات، هو جسده الخاص، وبينما هو نفسه لم يصبه ضرر أبدًا ، " بحمله خطايانا فى جسده على الخشبة "، كما قال بطرس (1بط24:2) فإننا نحن البشر قد افتُدينا من أوجاعنا وامتلأنا من بر الكلمة] . إن الوجود الإنساني الواحد (جسدًا ونفسًا) الذى لا يتجزأ يمثل الاعتقاد السائد والتعليم الواضح للكنيسة، وهذا ما تؤكده صلوات سر مسحة المرضى. [ تباركت أيها الرب إلهنا الصالح طبيب أنفسنا، بجراحاتك شُفينا أيها الراعي الصالح، الذي طلب الخروف الضال. يا معزي صغيري القلوب. الذي أبرأ حماة سمعان من حمتها الصعبة، والنازفة الدم من مرضها القديم . الذي عتق ابنة الكنعانية من الروح النجس. الذي ترك للغريم الدين الذي علية. الذي غفر للزانية خطاياها. الذي برر العشار. الذي قبل إليه اعتراف اللص في آخر حياته، وأنعم علية بالفردوس ] .


إن الربط بين المرض والسقوط هو وارد، أيضًا يميز القديس باسليوس الكبير بين الوسائل الشفائية والطريقة الشفائية، فالوسائل هى الدواء وأى وسيلة شفائية لكن الطريقة الشفائية هى المواجهة الكلية للمرض فى صلوات الكنيسة لسر مسحة المرضى, ويقول ذهبى الفم: [ ماذا يحدث إذن؟ يسألون، أليس كل الأمراض تأتى من الخطايا؟ بالتأكيد ليست كلها لكن كثير منها، بعضها من الخمول. كما أن النهم والسكر والبطالة تجلب الأمراض.. أما إن الأمراض توجد بسبب الخطية فهذا يأتى من كتاب الملوك حيث نرى شخص أصيب بالنقرس لأجل هذا السبب صارت هذه الأمور هكذا لكى نصير نحن أفضل، كما قال الله لأيوب " لا تظن أفعل لك بهذه الطريقة لسبب آخر إلاّ لكى تظهر فضيلتك"]
يذكر القديس باسيليوس الكبير سببين آخرين لوجود المرض فى حياة الإنسان:
أولاً: تأتى الأمراض بسبب أن الشيطان يطلب هذا كما هو واضح من حالة أيوب .
ثانيًا: القديس يمرض كما في حالة بولس الرسول [حتى لا يبدو أنه لديه شئ أكثر من طبيعته] .
أيضًا يعلم القديس باسيليوس أن الله ليس مسبب للمرض، لأن الله ليس مسبب للشرور، لكن الخطية التى إن لم تكن سبب مباشر للمرض يمكن أن تكون سبب غير مباشر. فيمكن أن يكون سبب مرض شخص ليس خطيئته الشخصية ولكن خطية شخص آخر (مثل الحوادث بسبب إهمال الآخرين). على الجانب الآخر، إننا نمرض أيضًا بسبب الظروف الطبيعية، والتى هى أيضًا نتيجة الخطية البشرية، لأن الطبيعة " تئن وتتمخض ". الله لم يلغِ نتائج الخطية البشرية كالأمراض والضعف والكوارث .. لأنه لو فعل ذلك سيلغي الحرية البشرية التى هي العطية الثمينة من الله إلى الإنسان، بمعنى أن يصادر كل محاولات الإنسان فى إيجاد حلول لمشاكله وممارسة إمكانياته كمخلوق على صورة الله ومثاله.

أما في حالات معينة يحدث فيها المرض كنتيجة لظروف خارجية، لا يكون على الأقل نتيجة اختيار بشرى، وعندئذ فإنه ممكن أن يتدخل الله بدون إلغاء الحرية البشرية (كما يحدث فى المعجزات). ربما أن حالة المولود أعمى توضح ذلك، يقول القديس أثناسيوس [ تفوه الرب قائلاً " لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه " (يو9: 3). بمعنى أن عماه الآن ليس هو بسبب خطايا لكن خطأ الطبيعة، مثل نبات قبل أن ينبت من الأرض، تعرضت جذوره مرات كثيرة لضرر وظرف ما خارجى، هكذا الأعمى منذ ولادته، تعرض للإعاقة فى بطن أمه، سواء أن الحضن الأموى لم يكن بحالة جيدة أو لأن البذرة الأبوية أُعطيت مشوهة. هذا الذى سيستطيع أن يصلح الطبيعة المعيبة سيبرهن على أنه ليس شئ آخر إلا خالق الطبائع ] .

بداية المرض
يتساءل القديس باسيليوس الكبير من أين الأمراض، من أين الإعاقات الجسدية؟ لأن المرض ليس خليقة الله، فالله خلق الكائنات الحية كما يجب ومنح لها الحياة الكاملة لكن تعرضت للمرض بسبب تغيرهم من حالتهم الطبيعية ويؤكد قائلاً [ لأنهم فقدوا صحتهم إما بسبب طريقة معيشية سيئة أو بسبب أى أمر آخر يجلب المرض . حسنًا خلق الله جسد وليس مرض ] . أيضًا يتحدث القديس باسيليوس عن الموت قائلاً : [.. أخطأ " آدم " بسبب اختياره السيئ ومات بسبب الخطية " لأن أجرة الخطية هي موت " (رو23:6)، أى بقدر ما يبتعد عن الحياة، بقدر ما يقترب من الموت. لأن الله هو الحياة، بينما الموت هو غياب الحياة. حتى أن آدم جلب موته بابتعاده عن الله بحسب قول الكتاب "لأنه هوذا البعداء عنك يبيدون " (مز72: 27). هكذا الله ليس هو الذى خلق الموت، لكن نحن قد جلبناه على أنفسنا بالإرادة الشريرة] .

طرق ووسائل تتميم الشفاء
يقول القديس غريغوريوس اللاهوتى فى رثائه لأخته غورغونيا، إنها حفظت صحتها الجسدية: " نفسها قوية محمولة بالجسد"، وينصحنا: [ هكذا أنتم أيضًا جميعكم، المرضى والأصحاء، الذين تؤمنون بهذا يجب أن تحفظوا صحتكم لكى تستمتعوا بها ] .
وهكذا لكى يكتسب الإنسان عمليًا صحته المفقودة، وليس فقط التخلص من الأعراض، من الضرورى أن يهدف لأن تكون نفسه قوية متحررة من الخطية، مغيّرًا طريقة حياته. بمعنى أنه من الضرورى والهام أن يغير موقفة فى الحياة ورؤيته عن هذه الحياة. بكلام آخر لابد أن يتوب [ لأنه كما أن الزارع يغير نوعية النباتات، على الأكثر فإن اهتمام النفس التى تتفق مع الفضيلة يمكن أن تنتصر على أى نوع من المرض] .

إن موقف حزقيا يُذكّرنا بقول إشعياء: " بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم " (إش30 :15)، فقد وجَه وجهه إلى الحائط وصلى إلى إله السموات قائلاً: " يارب أذكرنى " (إش38: 3)، ويؤكد يوسابيوس فى تفسيره لإشعياء إصحاح 7 على إنه [ سوف تشفوا فورًا من كل أمراضكم، لو رجعتم من الضلال السابق وتعلمتم أن تعيشوا حقيقةً بتقوى] .
إن الله يَعد بواسطة إشعياء كما يؤكد كليمنضس الرومانى لمعاصريه: [.. لو أوقفتم هذا وأتيتم إلى الله بواسطة ربنا يسوع المسيح ستكونون فى حالة جيدة وستنالون بجانب شفاء الجسد نفوسًا صحيحةً.. وهكذا أنتم أنفسكم سوف تفهمون وستعملون هذا الذى هو صحيح وستصيرون محبوبين عند الله وستشفوا ] .

والقديس يوحنا ذهبي الفم، فى حديثة عن المفلوج، يقول : [ لكى تُستعاد الصحة لابد من التوبة وغفران الخطايا لذلك فإن المسيح لم يبدأ من شفاء العَرض، لكن يقول " ثق يا ابني مغفورة لك خطاياك"، وهذا قد فعله بحكمة عظيمة. لأن الأطباء يعتادون على أن لا يشفوا الأمراض أولاً، لكن يزيلوا أسبابها. مثلما يحدث مرات كثيرة عندما تتعب عيوننا من إفراز سيئ ورشح ضار، يترك الطبيب شفاء إنسان العين المريض ويعتنى بالرأس، حيث يوجد جذر ومنبع المرض، هكذا فعل المسيح يجرد أولاً مصدر الشرور. لأن منبع الشرور وجذر وأصل كل مرض هى الخطية. إنها تشّل أجسادنا، إنها تجلب الأمراض. لذلك هنا يقول " ثق يا بني مغفورة لك خطاياك" (مت9: 2)، وهناك يقول " ها أنت قد برئت. فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر " (يو5: 14). معلنًا فى الاثنين أن هذه الأمراض وُلدت من الخطايا. وفى بداية الخلق أهان المرض جسد قايين بسبب الخطية. لأن ذاك بعد أن قتل أخاه، بعد هذا العصيان، عانى شلل فى الجسد. لأنه لكى يرتجف أحد، فهذا معناه أن لديه شلل. حقيقةً أن المرض يُضعف قوة المرء التى تغذى العضو، فلا تستطيع أن تتحكم فى كل الأعضاء، وتتركها خارج عنايتها، عندئذ فإن تلك الأعضاء بسبب الرخاوة ترتجف ولا تكون ثابتة. هذا ما أظهره بولس، لأنه بينما يشتكى الكورنثيين لأجل خطية ما، يقول " لأجل ذلك بينكم كثيرون ضعفاء ومرضى " (1كو11: 30)، لذلك فإن المسيح أولاً أزال سبب الشرور، وطالما قال " ثق يا بنى مغفورة لك خطاياك " أنهض عزيمته وأقام نفسه العليلة، لأن الكلمة صارت عمل ودخلت فى الوعى ولمست النفس وطردت كل قلق. حقيقةً لا شئ يجلب سعادة كبيرة ولا يمنح ثقة قدر أن لا يدين أحد ذاته " ثق يا بنى مغفورة لك خطاياك " لأنه حيث يوجد غفران الخطايا، هناك توجد البنوة ] .

إن المواجهة الحقيقية للمرض، عند ذهبي الفم، هى تلك التي ترمى أو تهدف إلى كل الإنسان، إذ يحلل بكل دقة وبطريقة علمية كيف أن الإحساس بالتخلص من الخطية يساهم مساهمة فعّالة فى استعادة الصحة. إنها نفس الطريقة التي يفضلها يعقوب الرسول " أمريض أحد بينكم فليدع شيوخ الكنيسة فيصلوا علية ويدهنوه بزيت باسم الرب وإن كان قد فعل خطية تغفر له " (يع5: 14ـ15). إن صلوات الكنيسة وأسرارها تستطيع أن تحمينا وتشفينا من الأمراض لكن على شرط الإيمان والتوبة. إن التقليد الأصيل الكنسى يشدد دائمًا على أن قوة سر تقديس الزيت فى مسحة المرضى لا تقدم شفاء لو أن المريض لا يغير طريقة حياته. إن الطبيب الحقيقي هو الله والشفاء الحقيقي يتحقق فقط، عندما يحيا الإنسان وفق الطريقة التي يعلنها المسيح، لأنها تكون وفق طبيعة الإنسان. لذلك يكتب القديس أثناسيوس عن القديس أنطونيوس، أنه كان يترجى [ أولئك الذين يعانون، لكى يصبروا، وليعرفوا أن الشفاء لا يأتى منهم ولا من الآخرين، لكن فقط من الله، الذي يفعل ما يريد ولمن يريد ] .
ويصف إشعياء كعمل شفائي: عمل المسيا " روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى المأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين فى الحرية " (لو4: 18ـ19). والقديس أغناطيوس الإنطاكى يعظ قائلاً: [ يوجد طبيب واحد للجسد والنفس… يسوع المسيح ربنا] . لذلك وضعت الكنيسة بحكمتها قراءة الإنجيل من (لوقا10: 1ـ9)، وذلك في الصلاة الرابعة لسر مسحة المرضى، التي تتكلم عن تعيين الرب للسبعين رسولا لكي تشدد على رسالة الكنيسة الشفائية والخلاصية ، إذ تصلي على لسان الكاهن قائلة: [ أيها الرب المؤدب الشافي، الذي يقيم المسكين من الأرض ويرفع الفقير من المزبلة، أب الأيتام وقاضي الأرامل، ميناء الذين في العاصف، طبيب السقماء، الذي حمل أمراضنا ورفع آثامنا، القريب في المعونة المتأني في العقاب ،الذي نفخ في وجه تلاميذه وقال لهم : أقبلوا الروح القدس من غفرتم لهم خطاياهم غفرت لهم. أنت الذي تقبل توبة الخطاة أيها الشافي من الأمراض ] . والعلامة أوريجينوس يشدد على البعد الكنسي (السلطان الكنسي) الممثل فى التلاميذ عندما يؤكد على أن المسيح الطبيب يشفى ليس فقط الجرح الجسدي ولكن النفسي لأنه بعصيان آدم [ سقط الإنسان في أنواع أمراض نفسية وجسدية، وأعطى (المسيح) للتلاميذ سلطان على الأرواح النجسة التى تزرع مثل هذه الأمراض، وذلك لكى يخرجوها ] . لذا يطلب الكاهن قائلاً: [ أرسل له الشفاء سريعًا. وأغفر له آثامه. وأمنح الصحة لسائر جسده وجميع أعضائه. أرحه من كل سقم وحل كل آلامه الجسدية. وأزل ضيقاته وأحزانه، يا من لا نرجو آخر سواك ] . أيضًا يصلي الكاهن طلبة أخرى في الصلاة السابعة قائلاً: [ الله الآب الصالح طبيب أجسادنا وأرواحنا الذي أرسل ابنه الوحيد يسوع المسيح ليشفي كل الأمراض وينقذ من الموت. أشف عبدك من أمراضه الجسدية. وامنحه حياة مستقيمة، ليمجد عظمتك ويشكر إحسانك وتكمل مشيئتك من أجل نعمة مسيحك ] .
ويؤكد أيضًا أوريجينوس، في تفسيره لسفر أيوب: [ إن المسيح أتى من السموات ليشفينا من الأمراض المستعصية، والتى ما كان لنفوسنا أن تُشفى منها بدونه ] .

العمل الشفائي لكلمة الله
يؤكد العلامة أوريجينوس على أن [ هدف الناموس والأنبياء هو شفاء البشرية ] .
إن كلمة الله تحمي الإنسان من المرض وتشفيه عندما يمرض، يقول السيد المسيح " الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد" (يو8: 51)، ويكمل صاحب المزمور قائلا : " أرسل كلمته فشفاهم ونجاهم من تهلكاتهم " (مز107: 20).
ويعلق أوريجينوس: [ " أرسل" (يو6 :28، 29) الله " كلمته فشفاهم " كما مكتوب في المزامير، أى هؤلاء الذين كانوا مرضى، هؤلاء الذين يؤمنون بكلمته يتممون " أعمال الله " التي هي " الطعام الباقي للحياة الأبدية "، و" أبي" يقول " أعطيكم الخبز الحقيقي من السماء. لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة إلى العالم ". "الخبز" الحقيقي هو " ذاك " "الذي يطعم الإنسان الحقيقي" الذي خُلق "بحسب صورة الله" (تك1: 26)، وذاك الذي يُطعَم يصير " شبيه بذاك الذي خلقه ". ما هو الأكثر شفاء للنفس أفضل من كلمه الله؟ أو ما هو الأغنى للذهن الذي يحتوي على حكمه الله؟ ما هو الأكثر مناسبة للطبيعة العاقلة أفضل من الحقيقة؟ ] . وهكذا فإن معرفة الحقيقة تحفظ الإنسان في صحة جيدة وتشفيه عندما يمرض، لذا يشدد يوسابيوس القيصري قائلاً: [ الكلمة تعتبر قادرة على الشفاء والخلاص] . عندما لا يسمع الإنسان كلمه الله، والتي تكشف له كيف يجب أن يعيش، عندئذ يمرض، وعندما يمرض لا يستطيع أن يُشفى. يقول الرب إلى إشعياء: " أذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعًا ولا تفهموا وأبصروا إبصارًا ولا تعرفوا. غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه وأطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيُشفي " (أش6: 10). حقيقةً إن كلمات الله تشفي ، وفيها نجد الدواء المناسب لكل مرض ، هذا ما يؤكده القديس ذهبي الفم : [أرأيتم أحبائي، أنه كل ما هو مكتوب في الكتاب لم يعطى لذاكرتنا إلا فقط لفائدتنا ولخلاص الجنس البشري؟ إذن فكروا في كل هذا، وليحتفظ كل واحد منا بالأدوية المناسبة لذاته. لذلك فإنها في خدمه الكل ويمكن لكل واحد أن يستخدم الدواء المناسب للمرض الذي يقلقه ويستمتع سريعًا بصحته، طالما لم يرفض الشفاء، لكن يُظهر اعترافًا بالمعروف. لأنه لا يوجد لا وجع جسدي ولا نفسي من تلك الأمور التي تعذب النفس البشرية لا تُشفى من هنا. ماذا يعني، أخبرني؟ إذا أتى إلى هنا شخص مقهور من الضيق ومن ظروف الحياة إذ هو غارق في الكآبة. عندما أتى وسمع مباشرة النبي يقول " لماذا أنت منحنية يا نفسي ولماذا تئنين فيّ. ترجي الله لأني بعد أحمده، خلاص وجهي وإلهي " (مز43: 5)، وطالما أخذ عزاءً كافيًا، وطرد كل تلك الضيقة سيذهب. آخر أيضًا وُجد في حالة صعبة مقهور من الفقر المدقع مشاهدًا الآخرين، وهو متضايق، يَسبَحون في الغنى ويفتخرون ويعتدون بذواتهم، وهذا أيضًا يسمع نفس النبي يقول " ألق على الرب همك فهو يعولك " (مز55: 22)، وأيضًا " لا تخشى إذا استغنى إنسان إذا زاد مجد بيته. لأنه عند موته كله لا يأخذ " (مز49: 17ـ18). آخر أيضًا يتعثر من النميمة والوشاية ويعتبر أن حياته لا تُطاق، طالما لا يمكن أن يجد بتاتًا مساعدة بشرية. لكن هذا يعلِّمه النبي الطوباوي أنه فى مثل هذه الظروف لا يجب أن يلجأ إلى حماية بشرية ، إذ يسمعه يقول " بدل محبتي يخاصمونني أما أنا فصلاة " (مز109: 4) . أ رأيت من أين يسأل الحماية؟.. ] . إن القديس ذهبي الفم، في هذا النص، يبرهن لنا كيف أن كلمة الله تعمل كدواء خلاصي لشفاء الأسباب العميقة التي تجلب الأمراض الجسدية.
خاتمة :
مما سبق نجد أن الله ليس هو مسبب للمرض، ولكن الإنسان فى سقوطه جلب على نفسه قضية الموت والمرض اللذين أصابا طبيعته. دخل الموت وبالطبع المرض إلى العالم، كما يعلمنا القداس الإلهى " بحسد إبليس ". لذلك الموت هو غياب النعمة الإلهية عن الطبيعة البشرية، لأن الله لم يخلق الموت. أصبحت طبيعة الإنسان حاملة للمرض والضعف وذلك بعد السقوط ، وهنا عندما نربط بين الخطية والمرض، نقصد الربط بين السقوط والمرض، أى بين ضعف الطبيعة البشرية الذى قاد إلى المرض والموت . والمسيح حمل أوجاعنا وآلامنا " إذ بجلدته شُفينا "، لكن لم يمحِ المرض تمامًا ولا الموت من الإنسان كما ذكرنا. لأننا نرى فى المرض تأديب من الله الآب لأبنائه. وأيضًا سمح الله بالموت، حتى لا يصير الشر (الموت) خالدًا، ومن جهة أخرى حتى يقيم الله الإنسان بالقيامة ويعطيه فرصة للتوبة أمام مشهد الموت .

إن الله هو الحياة بذاته ، بينما الإنسان يشارك فى حياة الله بحسب نعمة الله، وهذه الحياة تتحقق فى الإنسان بقدر ما يرتبط بعلاقة صحيحة مع الله، بقدر ما يجتهد فى طريق الكمال والفضيلة. إذن الانفصال عن الله هو المرض الذى يؤدى إلى الموت. إن رسالة المسيح كما جسدها إشعياء النبى: " روح الرب علىَّ لأن الرب مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأعصب منكسرى القلب لأنادى المسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق " (إش1:61). هذه الرسالة تحملها الكنيسة اليوم، إذ تمثل حضور المسيح فى التاريخ. ولا نجد أى تعارض بين محاولات الإنسان الدائمة للسيطرة على الأمراض والانتصار عليها عن طريق الطب والوسائل التكنولوجية الحديثة، وبين رسالة الكنيسة. إنما ما نريد التركيز عليه هو أن الكنيسة تضع أصبعها على أصل الداء كما تعلمت من المسيح، فالسقوط والخطية يجلبان المرض والموت. والعلاج لابد وأن يبدأ من العمق لينال الإنسان الشفاء الكامل (نفسيًا وجسديًا). لذلك عندما تركز صلوات سر مسحة المرضى على غفران الخطايا وشفاء النفس وتصحيح العلاقة بين الله والإنسان، هى تتكلم فى نفس الوقت عن صحة الجسد أيضًا. إن طلبة الصلاة الثالثة لسر مسحة المرضى تعلن هذه الحقيقة، إذ يقول الكاهن : [ تباركت أيها الرب إلهنا الصالح طبيب أنفسنا، بجراحاتك شُفينا أيها الراعى الصالح الذى طلب الخروف الضال. يا معزى صغيرى القلوب. الذى أبرأ حماة سمعان من حمتها الصعبة، والنازفة الدم من مرضها القديم. الذى عتق ابنة الكنعانية من الروح النجس. الذى ترك للغريم الدين الذى عليه. الذى غفر للزانية خطاياها. الذى برّر العشار. الذى قَبِلَ إليع اعتراف اللص فى آخر حياته، وأنعم عليه بالفردوس. الذى حمل خطايا العالم. الذى سُمِرَّ بإرادته وحده. نسأل ونطلب إليك، ونتضرع ونصرخ نحوك، لكى تغفر لعبدك ولنا نحن عبيدك جميع آثامنا، الذاتية وغير الذاتية، إن كان بمعرفة وبغير معرفة، الليلية والنهارية، التى أتت منا والتى وردت علينا من آخرين، التى من الحواس الظاهرة أو الضمائر المخفية، التى من حركات الروح أو الجسد، لأنك إله صالح محب للبشر . طهرّنا من كل زلاتنا، وأهدنا وساعدنا لكى نسلك فى طريق الحياة الأبدية، لا طريق الموت الدهرى. نعم يارب سامح عبدك بجميع زلاته. وأملأ فاه من تسبحتك. وأبسط يديه إلى فعل وصاياك. وهيئ أقدامه إلى طريق الخلاص. وحصَّن أعضائه وأفكاره بقوتك. أنت يارب قلت لنا على أيدي رسلك الأطهار (الكنيسة): إن كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا فى السموات ، وما تحلونه على الأرض يكون محلولاً فى السموات. وأيضًا قلت : إن من غفرتم له خطاياه غُفرت له ، وكما سمعت لحزقيا عند ضيقة نفسه فى ساعة موته ولم تُعرِض عن طلبته، كذلك أيضًا اسمعنى ... ونرسل الشكر لمراحمك ولعظمتك ولك المجد مع أبيك الصالح غير المبتدئ، وروحك القدوس المحيى الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور . آمين .] .

الاثنين، 25 أكتوبر 2010



الفرح رؤية أرثوذكسية د. جورج عوض إبراهيممقدمة:
ينظر الإيمان المسيحي للحياة نظرة سويَّة صحيحة ويُشكل موقفًا متعقلاً ومحبًا إزاء التاريخ والحياة البشرية فالرسالة المسيحية هي "بشارة مفرحة"، وتُُوجد نصوصًا كاملة في العهد الجديد موضوعها هو الفرح مثل الرسالة إلى فيلبي التي لها ملمح خريستولوجي أي أساسه المسيح. فالرجاء هو الفضيلة الجوهرية للحياة الروحية المسيحية. قد نتقابل في اللاهوت الغربي مع روحانية مركزها الخطية والموت حيث التركيز على الحُزن والنحيب النابعين من الصليب والموت، في الوقت الذي يُهمَّش الفرح النابع من قيامة المسيح. فاللحظة السامية للقديس في الغرب هي حين يحمل علامات جروح يسوع المسيح في جسده. أما القداسة في الشرق فتتمثل في وجه متجلي ومُقام يحمل المجد "المستنير" فوق هامته. فالتمركز حول الخطية والذنب كحالة حياة دائمة يُطفئ فرح القيامة في القلب.
الفهم الخريستولوجي للفرح
عندما نتكلم عن الفرح - كما يقول استاذ العهد الجديد ج.باترونس - فإننا لا نقصد مجرد حالة شعورية بسيطة يشعر فيها المرء لأسباب خارجة عن ذاته أنه فرح سعيد، ويعبر عن ذلك أمام الآخرين إما بالضحك أو بإظهار المزاج الرائق، بل نقصد شيئًا أعمق دائمًا وجوهريًا. فالفرح الذي هو مجرد حالة شعورية هو لا يتعدى كونه تهيؤ حسن بسيط من الممكن أن يُفقد بسهولة. بينما الفرح الحقيقي هو أسلوب حياة وحياة روحية عميقة معاشة، لذلك فهو يخص الحياة الروحية الداخلية وليس رهنًا لأسباب إنفعالية وشعورية تأتي من الخارج. هذا الفرح الحقيقي هو موضوع نتناوله في إطار التعاليم اللاهوتية وليس مجرد موضوع يخص علم النفس. إذن علينا أن نتناول هذا الموضوع في إطار تعاليم العهد الجديد والتعاليم الآبائية.
إن العهد الجديد يعتبر إن الشرط الأساسي الذي يقود الإنسان إلى التمتع بالفرح الحقيقي هو إيمانه بمجيء المسيح الخلاصي للعالم، وإعتبار مسألة خلاصه هي محور حياته. على أن تكون القداسة أثناء مسيرة الحياة هي الضامن الأكيد للتمتع بهذا الفرح الحقيقي. فالخطية تجلب حزنًا وتُُغَرَّب الإنسان وتلد الأحزان والنحيب ليس فقط بالمفهوم الوقتي للحزن الخاص بهذا العالم الحاضر، بل بالمفهوم الأخروي والأبدي.
الإنجيل الذي هو "الخبر المفرح" يحتوي على رسالة الفرح الجوهري، إذ يحمل رسالة التحرر والخلاص. لقد أتى يسوع المسيح إلى العالم مبطلاً مملكة الشياطين، أقصد أنه هزم مملكة القهر الداخلي والعبودية. فالإنسان عندما يكون حُرًا فهو يملك عندئذ إمكانية تذوق الفرح في كماله. بينما العبودية تعني رفض الفرح. لقد كان المسيح حاملاً للفرح العظيم. والفرح كثمرة لشركة المؤمنين بالمسيح هو دائم وكامل. والفرح في الرب هو المسحة الغالية على الكرازة الرسولية: "افرحوا في الرب وأقول أيضًا افرحوا". لذلك من الغرابة أن يتبنى البعض الحزن كسمة سائدة في الحياة الروحية.
إن الملمح الخريستولوجي للفرح يبدو واضحًا في رسالة بولس الرسول إلى فيلبي، على الرغم من أن هذه الرسالة كُتبت عندما كان في ظروف قاسية وتعسة داخل السجن منتظرًا الموت. ولم يكن الفرح عند بولس الرسول موضوعًا إجتماعيًا أو صحيًا مرتبطًا بمدى التمتع بالأمور العالمية، ولا هو بالتأكيد قضية نجاحات وإنجازات معينة، بل هو ثمرة شركة وعلاقة حيَّة بالمسيح. فالفرح هو "علامة" و "برهان" لهذه العلاقة الحية. فالفرح يعلن تجاوزًا وتخطيًا للحزن الذي تسببه الخطية فالإنسان كما قلنا ـ يعاني ويتألم عندما يكون عبدًا للخطية.
التجسد نبع الفرح الحقيقيإن مجيء الرب بالنسبة لأنبياء العهد القديم هو الهدف المُفرح الذي إنشغلوا به. لذا قال الرب يسوع لليهود: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأي وفرح"[1]. وقد وصف الأنبياء إتحاد الله بالبشرية بعُرس يتحد فيه العريس بالعروس: "وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك"[2]. " ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هكذا آتي وأسكن في وسطك"[3]. وإشعياء النبي يقول: " كثَّرت الأمة. عظَّمت لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد. كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة. لأنه يُولد لنا ولد ونعطي ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيبـًا مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام"[4].
ونجد ذلك أيضًا في العهد الجديد. فالقديس لوقا يذكر ما قاله الملاك حين بشر الرعاة: "ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: إنه وُلد لكم اليوم مخلص..."
[5]. يقول القديس كيرلس الأسكندري عن التجسد: " لقد نزل كلمة الله من السماء... لكي يتحد بصفته العريس بطبيعة الإنسان، فيجعلها بذلك تثمر الثمار الروحية. ولأجل ذلك تُدعى البشرية عروسًا كما يُدعى المخلص العريس"[6]. لقد كان مجيء مخلصنا إلى العالم ـ كما يقول القديس كيرلس الأسكندري ـ بمثابة عيدًا عظيمًا إتحد فيه روحيًا بطبيعة الإنسان كمثل عروس له حتى أن هذه الطبيعة التي بقيت عاقرة زمانًا طويلاً تصير مثمرة ويزداد ثمرها.
فالمسيح صار لنا سلامًا ومسرة لأن الآب قد سُر أن يجمع فيه الجميع (أف10:1) ويربط معًا العلويين مع السفليين ويجعل الذين في السماء مع الذين على الأرض قطيعًا واحدًا. هكذا يدعو القديس أغسطينوس تجسد الكلمة عُرسًا، إذ يقول: " إن المسيح يدعو تجسده، أي تجسد الكلمة عرسًا لأنه في شخص الناسوت المتحد به قد اقترنت الكنيسة بالله"
[7].
الفرح والشركة الإفخارستية
إن الإفخارستيا هي سر الفرح، هي مائدة السرور والإبتهاج للمؤمنين (أنظر أع46:2)، لأن فيها نشترك في التمتع بغفران الخطايا والحياة الأبدية بواسطة إبادة الموت. إن الكنيسة قد حفظت الملمح الأول لمناخ المسيحية أي الفرح هذا الفرح يظل في الكنيسة كإيقاع أساسي للعبادة وبالحري لليتورجية الإفخارسيتة: فرح الإتحاد بالرب الحي إذ تُعلن البهجة لأن قوات الخطية والموت قد هُزمت، لأن الشياطين هُزمت، ولأن سلطان الشيطان قد أُبطل بالفعل في السماء، لأن الشر قد دُمر من جذوره، لأن للمؤمنين الذين وُلدوا ولادة ثانية بدأت من الآن الأبدية الجديدة للحياة الإلهية وللمجد ولجمال الله، حياة الإيمان الجديدة والعالم الجديد.
إن عمل المسيح الإنتصاري هو سبب فرح المؤمنين وبسر الإفخارستيا نذوق الفرح ونختبره، إنه فرح الله أو الفرح، إنها بداية الحياة الجديدة والدخول في ملكوت الله المبارك. نحن لا نشترك فقط في حزن الصليب والآلام لكن في فرح القيامة الذي أتى من موت المسيح في العالم، الموت الذي أمات الموت، فموت المسيح هو المجد والحياة والنصرة والقيامة. ونحن نتمم في سر الإفخارستيا هذه النُصرة ونحققها، فهي سر المحبة المنتصرة والإفخارستيا تعني "الشُكر" إنها تسبيح وبالأكثر صلاة الفرح المنتصر والعبور المستمر.
فالمسيح الذي قام من الأموات هو الفرح والإبتهاج الأبدي للكنيسة، وهو الذي إنتصر على الموت وهبط إلى الجحيم بقوة الصلاح والمحبة الإلهية. إن فرح الكنيسة هو فرح قيامة المسيح المصلوب، فرح في القيامة وبعد القيامة. إن خبرة الفرح والقيامة تشكل التقوى والحياة الأرثوذكسية. القيامة هي أساس الخليفة الجديدة التي نتذوقها ونحتفل بها في كل ليتورجية، إنها الحياة الأبدية والتي تدعوها الكنيسة: اليوم الثامن للخليقة. إنها بداية الحياة خارج الزمن، إنها ملكوت الروح حيث الله سيكون "الكل في الكل".
الإفخارستيا هي العيد الحقيقي لليوم الثامن، لـ "يوم الرب" الذي يُوجد خارج التحديدات الزمنية، خارج الأحزان والآلام وتأوهات الخليقة، تجعل الكنيسة واحدة مع ملكوت الله الآتي، يحولها إلى جسد المسيح في العالم، إلى اجتماع المختلفين، إلى شعب المبتهجين.
الفرح ليس هو عنصرًا نستطيع أن نحدده ونفسره تفسيرًا نظريًا، لكن هو حدث نشترك فيه ونذوقه (تعال وأنظر). فالإفخارستيا هي الباب الذي يؤدي إلى فرح الرب، على عيد قيامته. فالإفخارستيا هي سر الفرح نفسه، هي دخول الكنيسة إلى فرح العُرس. الكنيسة في الإفخارستيا وبالإفخارستيا تصير العبور المشترك والفردوس المشترك والمعيشة المشتركة، وليتورجيتها من الآن تصير المشاركة في الإبتهاج الأبدي، في العشاء السماوي الأخروي، وفي الملكوت الإلهي، إنها التذوق السرائري للقيامة، إنها إيقونة القيامة.
الكنيسة هي شركة المحبة، لذلك هي شركة فرح، فالملمح الأساسي للجماعة الكنسية هو الليتورجيا والإفخارستيا المائدة الإفخارستية هي طقس عُرسي، عيد للفرح. حول "مائدة الحياة" يفرح المؤمنون. فالمائدة الإفخارستية هي طعام وشراب روحي وفرح. يبتهج في هذا الاحتفال بالمائدة الفقراء والحزانى. الفرح والسعادة ليس بمفهوم الحياة الرغدة والترفية أو بمفهوم ضد النسك. فالنسك والتضحية والجهاد لا يلغي الفرح. إن الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين هي مكان للحياة وليس لرفض الحياة والتاريخ. فالكنيسة هي المكان الذي يتبارك فيها شعب الله ليصير "شعبًا مباركًا". الفرح هو ثمرة من ثمار أو عطية من عطايا الروح القدس. فالفرح هو حالة مواهبية والإنسان الفَرح هو إنسان مواهبي ومملوء بالنعمة.
كل هذا لا يعني المناداة بروحنة الحياة واتخاذ موقف سلبي تجاه الحياة والتاريخ والواقع اليومي. بل على العكس، فلا يجب أن نتخذ التأملات الروحية سبيلاً للهرب من الواقع المحيط الذي تتخلله حزن وألم وظلم واستغلال، بل علينا أن نواجه ذلك الواقع المأسوي ونحوله إلى واقع مليء بالفرح والسعادة. لأن قبول التعاسة والألم والفساد والموت كحالة طبيعية هو ضد الشركة والتعليم اللاهوتي المستقيم. فلا يمكن أن نقبل نتائج السقوط والخطية كحالة طبيعية بدون أي رد فعل أو إعتراض.
إن هدف الإيمان المسيحي بناء إنسان مملوء بالنعمة والفرح، مملوء برسالة النصرة ضد الخطية والموت.
خاتمة
إن الفرح الحقيقي يرتبط إرتباطًا مباشرًا بحياة روحية جوهرية. لذا فأي شكل آخر للفرح يعتبر فرحًا مؤقتًا وظاهريًا لأنه قد يثير شعورًا كاذبًا بالفرح. فالبشر عادةً يفتشون على الفرح من خلال الأمور المادية واللذات الوقتية. بيد أن هذا لا يعني أنه لا يوجد فرحًا حقيقيًا داخل الحياة، أو أن أي شكل للفرح في الحياة اليومية له مصدر خاطئ. ومن ناحية أخرى فإن الحياة النُسكية ليست ضد الفرح بل تهدف إلى تحقيقه.
فالروح القدس لا يسكن في الضمائر والقلوب المضطربة بل في البشر المملوئين نعمة وهدوء. فالفرح يجعل الإنسان مملوءًا بالنعمة ليس فقط بالمفهوم الإجتماعي بل بالمفهوم المواهبي والسرائري. إنه الفرح المعلن الذي يدل على النضج الروحي للإنسان.
وتحدث الآباء عن ما يُسمى الحزن المفرحcarmolÚph فالمؤمن ليس هو الإنسان المأسوي اليائس بل هو إنسان متفائل بالرجاء وفرح الإيمان. فالتجارب والآلام والأحزان تقودنا لا إلى اليأس بل إلى الفرح الطوباوي، وعلى المرء أن يتيقظ ويجاهد روحيًا حتى يتذوق مثل هذا الفرح.
[1] يو56:8.[2] إش5:62.[3] زك10:2.[4] إش3:9، 6.[5] لو1:2.[6] تفسير يو11:2[7] المسائل الإنجيلية31:1.

الجمعة، 22 أكتوبر 2010



سر الماسيا


د. جورج عوض ابراهيم


ما هو السبب الي جعل المسيح يأمر الأبرص الذي شفاه أن لا يقول لأي أحد شيئاً يتعلق بشفائه ؟ ( أنظر مت 8: 4 . مر 1: 44 . لو 5: 14 )
هذا الحدث هو من ضمن وحدة متسعة من الوقائع المذكورة في إنجيل مرقس، وكذالك في الأناجيل الثلاثة الأخرى. يبدو المسيح في كل هذه الحوادث أنة يهدف إلي إخفاء معجزته وهويته، وأيضاً إلي غموض تعليمة لقد وصُف موقف المسيح هذا من جانب المفسرين المعاصرين كـ " سر المسيا " وقبل أن نجيب علي السؤال الذي يفرض نفسه عن ما هو السبب الخفي وراء هذا الموقف،
دعونا نذكر حودث معينة في إنجيل مرقس تخص موضوعنا هذا :
أ‌- في مر 1: 44 يأمر المسيح الإنسان الذي شفي من برصه أن لا يقول لأحد شيئاً يتعلق بشفائه، لكن علية أن يذهب للكهنة لكي يتحققوا من شفائه.
ب‌- مباشرة ًبعد معجزة إشباع الجموع بخمسة أرغفة وسمكتين، يلزم يسوع تلاميذه بأن يدخلوا السفينة التي كانت موجودة بالقرب من مكان المعجزة ويبتعدون من هناك لكي يتجنب التعبيرات الحاسمة للجموع ولكي لا ترتبط بقدر الإمكان هذه المعجزة بشخصه ( أنظر مر 6 : 45 . مت 14 : 22 ، يو 6 : 15 ).
ج- بعد شفاء المولود أعمي، يرُسله يسوع مباشرة إلي بيته مع الأمر بأن لا ينتشر مباشرة ً خبر شفائه: " لا تدخل القرية ولا تقل لأحد في القرية " مر 8: 26.
د- بعد التجلي أمر يسوع الثلاثة تلاميذ الذين كانوا معه أن لا يخبروا أحد بهذا الحدث حتى قيامته ( أنظر مر 9: 9. مت 17 : 9 . لو 9: 36 ).
إن المسيح لن يُخفي فقط أفعالة المعجزية بل وأعاق أيضاً إعلان حقيقة هويته التي وفق الآية الاولي في إنجيل مرقس هو المسيح ابن الله . وكون أنة ابن الله، والمسيح قدوس الله، فالشياطين تشهد بذالك ( انظر مر1: 24، 34.3 : 11 . 5: 7، انظر أيضاً لو 4: 41 ) ، حيث أمرهم مباشرة ً أن لا يظهروه ( انظر مر 1 : 25، 34 . 3: 12، لو 4: 41 ). وبطرس يعترف بإسم كل التلاميذ أنة هو المسيح ، أي المسيا المُرسل في العهد القديم ( انظر مر 8 : 29 . مت 16 : 16 . لو 9: 20. يو 6 : 69 ). لكن يأمر أيضاً كل التلاميذ – بعد هذا الإعتراف – أن لا يعُلنوا لأحد محتوي هذا الإعتراف: " فأنتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنة " مر 8: 30.
علي الجانب الآخر ، صاغ يسوع تعليمة ليبدو لسامعيه أنة عميق وليس من السهل إدراكه جيداً ، فكان يتحدث بأمثلة : " لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا ويسمعوا سامعين ولا يفهموا ...... " ( مر 4: 12 . هذه الآية تأتي من اشعياء 6: 9- 10. أنظر أيضاً مت 13: 13 – 15. لو 8: 10. يو 9: 39 ،12: 40 ) ، بمعني أن المسيح يعلم ، بمثل هذه الطريقة، حتى أن الشعب الذي يسمعه يري بدون أن يدُرك، ويسمع بدون أن يفهم . حسناً، تعليم يسوع بالأمثال هو صعب الفهم حتى أن التلاميذ أنفسهم لم يدركوا روح هذا التعليم، إن لم يفسر لهم معلمهم هذا التعليم ( انظر مر 4: 10، 34. أنظر لو 8: 9 ).
بالرغم من الإخفاء المتعمد للمعجزات وكذلك إخفاء هويتة، إلا أن نشاطة كان ساطعاً سطوع الشمس ( انظر مر 1:28 . لو 4: 37)، الأمر الذي يدل علي أنة في النهاية من المستحيل أن يُخفّي أعظم حدث في التاريخ الإنساني : تأنس الله ذاته . هكذا بالرغم من أنة أمر الذين شفاهم بأن لا يقولوا شيئاً ، بيد أنهم كانوا يتحدثون ويدعون معجزاته ( انظر مر 1: 45). والنتيجة أن جمع كبير من المرضي كانوا يطلبون منة الشفاء. لقد تجنب – منذ البداية – الظهور في المدن حيث كان معروفاً ، لكن كانوا يبحثون عنة ويأتون إلي الأماكن المقفرة التي كان يعتاد أن يذهب إليها ( أنظر مر 1: 35 . 6: 33 . مت 14: 1
13 ) . لقد تمت معجزات كافية أمام جمع من البشر، سواء في المجمع ( أنظر مر 1: 23 – 27. لو4: 33 – 36) أو اجتماع في الخلاء ( أنظر مر 6: 35 -44. 8: 1- 9 .مت 14: 15 – 21 . 15 : 32 – 38 . لو 9:12 – 17. يو 6: 1 – 15 ).أيضاً تعليم يسوع كان علنياً وكان يسبب دهشة من اللحظة الأولي: " فبهتوا مِن تعليمة لأنة كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة " ( أنظر مر 1: 22. مت 4: 19. لو 4: 32 ).
إن صيت يسوع وصَّل إلي هيرودس رئيس الربع في الجليل ( أنظر مر6:14 . مت 14 : 1. لو 9: 7 )،الذي عندما سمع عن يسوع تحير مَنْ يكون هذا ؟ ( أنظر مر 6: 16 . مت 14: 2 . لو 9: 9). هذه العلانية كانت تسير جنباً إلي جنب مع عدم فهم تام لشخص وعمل يسوع:
أ‌- يتهمونه الكتبة بأنة يجدف عندما قال كيف أنة يستطيع أن يغفر الخطايا، الأمر الذي يستطيع أن يفعله الله فقط في العهد القديم ( أنظر مر2: 6- 7. مت 9 : 3 . لو 5: 21 ).أيضاً قالوا له أنة يُخرج بعلزبول الشياطين: " إن معه بعلزبول وأنة برئيس الشياطين يخرج الشياطين " مر 3: 22. لم يدركوا أن يسوع هو الله ، وبالتالي من ضمن مقدرتة أن يغفر الخطايا ويخُِرج الشياطين.
ب‌- شرَّع الفريسيون في قتل يسوع لأنة لم يحفظ السبت ( أنظر مر 3: 6. مت 12: 14 . لو 6: 11)، بدون ان يدركوا أن يسوع هو الله وأنة واحد في الجوهر مع مُشَّرع السبت.
ج- سُمع في كل الجليل عن يسوع بأنة يوحنا المعمدان الذي قُطعت رأسه وقام ثانية ً أو إيليا النبي أو احد الأنبياء من ضمن أنبياء العهد القديم ( أنظر مر 6: 14 – 15 . 8: 28 . مت 16 : 14. 9: 8 ) . هيروديس أنتيباس نفسه أنتهي إلي نتيجة مفادها أنة " يوحنا الذي قطعت أنا رأسه أنة قام من الأموات " ( انظر 6: 16 . مت 14 : 2 . لو 9: 9). لم يُدرك أحد أن يسوع هو أعظم مِن نبي، وأيضاً أعظم مِن إيليا ويوحنا المعمدان.
د- حكم علية شيوخ اليهود بالموت ( أنظر مر 14: 64: " فالجميع حكموا علية أنة مستوجب الحكم "
( أنظر أيضاً مت 26: 66 )، عندما أعلن أنة " المسيح وابن المبارك " أي ابن الله وأنباء عن مجيئه الثاني ( أنظر مر 14: 62. مت 26 : 64 . لو 22: 67 – 70 ).
بإيجاز نقول أن آراء الشعب تأرجحت من جهة إما يسوع هو إنسان الله جاء في شكل نبوي ، أو أنة مجدف ومثير فتن. لكن لا احد أدرك جيداً بأن يسوع هو نفسه أبن الله.
علي الجانب الآخر ، ليس فقط الجمع بل هؤلاء التلاميذ أيضاً لم يدركوا مَنْ هو حقاً معلمهم:
أ- في معجزة سير يسوع علي المياه ، حين رأي التلاميذ يسوع يمشي علي الأمواج المضطربة ( أنظر مر 6 : 5 . مت 14 : 26 . يو 6 : 19 ) ثم يصعد إلي السفينة ويُسَّكن الرياح، يقول الكتاب : " فبهتوا وتعجبوا في أنفسهم جداً إلي الغاية " مر 6: 51. ويشرح القديس مرقس أنهم لم يفهموا حقاً مَنْ هو يسوع من المعجزة السابقة: إشباع الجموع : " إذ كانت قلوبهم غليظة" مر 6: 52 .
ب- عندما أعترف – فيما بعد – بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن الله ( انظر مر 8: 29. مت 16 : 16 . لو 9: 20. يو 6: 69 ) ، يبدو من أول وهلة أنة هو نفسه وباقي التلاميذ قد دخَّلوا في عمق سر هويته . والمسيح حامي عن أعتراف بطرس ، وقال له " طوبي لك يا سمعان بن يونا . إن لحماً ودماً لم يُعلن لك لكن أبي الذي في السموات . وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلي هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوي عليها " مت 16: 17 – 18 . حقاً إن أعتراف بطرس هو حجر الأساس للكنيسة، إذا فهمنا هذه الأقوال لاهوتياً ، إنه أساس الإيمان المسيحي.
لكن، لو رأينا هذا الأعتراف في إطاره التاريخي ، يبدو أن بطرس – ومعه كل التلاميذ – كانوا يقصدون أن يسوع هو المسيا اليهودي الذي سوف يحرر الشعب الإسرائيلي من الاحتلال الروماني ثم يؤسس مملكة داود . وهذا الأستنتاج يأتي من تصرف بطرس تجاة المسيح - مباشرة ً بعد أعترافة – حينما أنباء يسوع عن آلامه وموته وقيامته ( انظر مر 8 : 31 . مت 16 : 21 . لو 9 : 22 )،إذ أراد أن يحميه منِ مثل هذه المواقف التي تعيق رسالته الماسيانية – كما أعتقد ( انظر مر 8 : 32 . مت 16 : 22 ) . لكن المسيح وجَّه له عبارته المشهورة " " إذهب عني يا شيطان . لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس " ( مر 8 : 33 . أنظر مت 16 : 23 ). بهذا التعبير ، قصد المسيح إظهار المسيح إظهار أن أفكار بطرس الماسيانيه هي بكل وضوح بشرية ولا تتوافق حقاً مع خطة الله لفداء الإنسان والتي سوف تصل إلي قمتها في آلام وقيامة المسيح.
ج – بعد التجلي، أنباء يسوع ثانية ً التلاميذ عن قيامته من الأموات ( انظر مر 9: 9. مت 17 : 9 )، فتسائل التلاميذ فينا بينهم " ما هو القيام من الأموات " مر 9 : 10 ، لأنهم لم يتمكنوا من إدراك كيف الإنسان ، مهماً كان قديساً أن يرجع من الموت إلي الحياة.
د – وفي إنباء ثالث ليسوع عن آلامه وقيامته ( انظر مر 9: 31 . مت 17: 22 – 23. لو 9 : 44 ) يبدو التلاميذ أنهم يجهلون مفهوم هذا الإنباء ثم خافوا أن يسألوه : " وأما هم فلم يفهموا القول وخافوا أن يسألوا " مر 9 : 32 .
هـ - الفكر الخاطئ عن ماسيانية يسوع ظهر من طلب يعقوب ويوحنا بأن يجلسا واحداً عن اليمين الآخر عن اليسار " في مجدة " مر 10 : 37 ، عندما يملك علي إسرائيل كماسيا عالمي . يجيب يسوع قائلاً : " أما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطية إلا للذين أعُـِدَّ لهم " مر 10 : 40 ، ويُظهر لهم أن مملكته ليست بها ملامح عالمية بل هي مملكة اله السماوية.
مِن هذه الأمثلة يبدو مدي سوء فهم التلاميذ لشخص وعمل يسوع .لكن وعمل يسوع . لكن لأي سبب حدث هذه الآراء الخاطئة؟ نقول ، وفق الصورة التي أعطتنا إياها كل الأناجيل عن مسيرة يسوع التاريخية قبل قيامتة لم يكن من الممكن لهوتية وعملة أن يُدركا ويصيرا مقبولان من جانب الشعب وكذلك من جانب التلاميذ أنفسهم . وهذا يرجع إلي أن اليهود في ذلك العصر لم يتمكنوا من إدراك أن إله آبائهم، يهوه، أن يصير أنساناً وأن يحيا فيما بينهم . علي الجانب الآخر ، كل النبوات المتعلقة بة في العهد القديم لم يفسروها مثلما فسرها المسيحون فيما بعد لكن فسرها علي أساس معطياتهم الدينونه واللاهوتية .
إذن – بحسب الإيمان اليهودي وقتذاك – الله منفصل عن الإنسان إذ بينهما هوة كيانه لا تُعبر. مُن الممكن عبور هذة الهوة – بحسب العهد القديم – فقط من خلال الظهورات الإلهية . لكن بعد الأسر البابلي ندرت الظهورات الألهية، وفي عصر المسيح لا نجد نصوص يهودية فيها أي أثر لظهورات الله . أذن كيف يتواصل الإنسان اليهودي البسيط مع الله وقتذاك؟ بطريقة واحدة غير مباشرة، من خلال الصلاة والعبادة وبدراسة وحفظ الناموس ، طالما أن الله كشخص كان غائباً عن حياته اليومية، هكذا يبحث عنة داخل التقوى الناموسية إذن في إطار الإيمان اليهودي حيث بنوده الأساسية هي وحدانية الله وتعاليه ، أي إنسان يزعم أنة إلة حتى لو أتم معجزات كثيرة لكي يدعم زعمه هذا ، سوف تسقط علية إدامة الموت بسبب تجديفه .
إذن لماذا أظهر يسوع ميلة بأن يخفي معجزاته وهويته وتعليمة؟ ببساطة لكي يتجنب التفسيرات الخاطئة لشخصة وعملة، حتى لا يعطي وقوداً للسيناريوهات الخارجية والمطالبات المؤسسة علي دورة التحرري من الاحتلال الروماني، ولكي لا يُغذي العداوة الموجودة بالفعل بين النظام الرئاسي اليهودي الديني والأحتلال الروماني، وبالحري حتى لا ينشئ حماس يستند علي تطلعات ماسيانية خاطئة غرضها التحرر القومي . ربما أنة يعلم مسبقاً بأنة سوف يساء تفسير عملة هذا وهويته؟ هنا يجب التشديد أن الغموض الذي اكتنف مسألة شخصة وعملة مع كل الذين إقتربوا منة كان وقتياً. لقد منح يسوع تلاميذه بعد القيامة الروح القدس كوسيلة لأدراك شخصه وعملة. فالروح القدس هو الذي قاد المؤمنين لتخطي الشكوك الدينية والظنون التي كانت سائد بين الناس، كذلك هو الذي أنار البشر ليقبلوا : بأن الله حقاً صار إنساناً وعاش بينهم ، هذا هو منبع خلاصهم.







السبت، 16 أكتوبر 2010



الإفخارستيا (رؤية أبائية)
د. جورج عوض إبراهيم
إن كان سري العماد والميرون والإفخارستيا مرتبطين معًا ويمثلون دخول المسيحي الجديد إلي الكنيسة ، فالإفخارستيا تبدأ بالإحتفال الذي يقود المعمدين حديثًا من جرن المعمودية إلي الكنيسة حيث يتم إعداد أو تجهيز التقدمات.
تحتوي الإفخارستيا علي ثلاثة أجزاء:
الأول: التجهيز أو الإعداد أو التحضير للسر المقدس (التقدمة).
الثاني:
الصلاة علي الذبيحة الإفخارستية التي تتكون من الطلبة الإفخارستية التي تُصلي ليصير الخمر والخبز جسد المسيح وحمه (الأنافورا).
الثالث:
تسليم (مناولة) التقدمة الإلهية المقدسة (جسد المسيح ودمه) إلي جماعة المؤمنين.
هناك موضوعان رئيسيان في طقس سر الإفخارستيا:
1ـ هذه الليتورجيا هي حضور سرائري لذبيحة الصليب.
2ـ هذه الليتورجيا هي الإشتراك السرائري في الليتورجيا السماوية.
بعد المعمودية فإن المسيحيين الجُدد بالملابس البيضاء والشموع في إحتفال يذهبون إلي الليلة الفصحية, من جرن المعمودية إلي الكنيسة, حيث لأول مرة سوف يشتركون في الأسرار. وقد ذكر هذه اللحظة الحاسمة القديس إمبروسيوس: [ إن الشعب المتطهر الغني بهذه المحاسن (يقصد المعمودية والميرون) يسرع إلي مذبح المسيح قائلاً: "إني أذهب إلي مذبح الله, إلي الله الذي يفرح شبابي", لأنهم إذ قد تركوا جانبًا حمأة الخطأ القديم وتجدد شبابهم كالنسر, يسرعون للإقتراب من تلك الوليمة السمائية. فإذ يأتون ويرون المذبح المقدس مهيًا يصرخون قائلين: "رتبت قدامي مائدة"] .
في هذا الموكب الإحتفالي حيث يرنمون 43: " أقض لي يا الله وخاصم مخاصمي.." والدخول حيث يرنمون مزمور23: " الرب راعي فلا يعوزني شئ..." تظهر الإفخارستيا من البداية كعشاء سماوي. والدخول إلي الكنيسة الأرضية يشير إلي الدخول إلي المذبح السماوي: " لقد سلكتم الطريق إلي الهيكل, والملائكة يتابعونكم, يرونكم تنطلقون, لقد رأوا منظركم الذي كان يستحق الرثاء وفجأة يرونه منيرًا" . أيضًا القديس غريغوريوس النزينزي يركز علي رمزية دخول الشعب كصورة للدخول إلي الهيكل السماوي ملهمًا بمثل العذارى الحكيمات: [ الخطوة التي سوف تفعلها مباشرةً بعد المعمودية أمام الهيكل الكبير هي صورة مسبقة للمجد العلي. نشيد المزامير, هو مقدمة لتسابيح السماء. الشموع التي تمسكها بإيديك هي سر المصاحبة المستنيرة السماوية, إنه السر الذي به سوف نذهب نحو ملاقاة العريس, إنها نفوس تلتهب وعذارى بشموع الإيمان ينيرون] . تُشرح كل الطقوس الليتورجية والمزامير والموكب الإحتفال والشموع بالليتورجيا السماوية. بحسب رؤية القديس غريغوريوس فإن الليلة الفصحية تُسكب داخل الأبدية. المعدين قد أتوا فعلاً هناك. والحدود بين العالم الأرضي والعالم السماوي إختفت. لقد إختلطوا بالملائكة, ليشاركوا في الليتورجيا السماوية. لقد حُسبوا كالقيام في السماء: "عندما نقف في هيكلك المقدس نحسب كالقيام في السماء".
عندما يدخلون إلي المذبح يجدون أنفسهم لأول مرة أما السر المستتر: "أتيت إلي الهيكل ورأيت هذا الذي لم تراه من قبل, وبدأت تشاهد نور الأسرار" . هنا يبدأ الجزء الثاني لليتورجيا الذي هو تجهيز أو تحضير, التقدمات الإلهية فوق المائدة, من جانب الشمامسة الخدام. هنا المشهد (المنظر) الذي يُقدم أما أنظار المعمدين حديثًا نستطيع أن نميز فيه ثلاث عناصر: المائدة المقدسة, الشمامسة, الإعداد, هل هذه هي إشارات للحقائق السماوية؟ يعطينا القديس أمبروسيوس شرح سريع للمائدة المقدسة: [ المذبح هو رمز للجسد وجسد المسيح هو فوق المذبح] . حقًا يُقدم لنا المسيح نفسه كلي القداسة ويمنح لنا ملء تقديسه: "هوذا كائن معنا الآن عمانوئيل إلهنا".
خُدام المذبح الذين يرتبون التقدمات الإلهية فوق المذبح يشيرون إلي الملائكة. وهذا التوازن بين خُدام السر المنظورين وغير المنظورين نجدها عند ديديموس الضرير فيما يخص سر المعمودية [ في مجال المنظور فإن جرن المعمودية بلد جسدنا المنظور بواسطة الكهنة. أما في المجال الروحي, روح الله غير المنظور في نفس الوقت يلدنا ثانيةً جسدًا ونفسًا بمعونة الملائكة] .
ويقدم لنا الأب ثيودور الشمامسة عند المذبح كرمز للملائكة: [بواسطة الخدام الذين يخدمون الطقوس يتماثل في ذهننا القوات غير المنظورة التي تخدم ليتورجيًا في هذه الليتورجية الأزلية] .
وكما أن هناك حضور حقيقي للمسيح في الإفخارستيا فهو "المقدَّم والمقّدم" و "الذبيح والكاهن" هكذا هناك حضور حقيقي للملائكة في صلاة الإفخارستا, وهذا ما يؤكده ذهبي الفم: [ الملائكة يحيطون بالكاهن. كل المكان المحيط بالمذبح هو مملوء بالقوات السماوية ليكرمون الجسد الموجود علي المذبح] .
هذا يعني أن ذبيحة الإفخارستيا هي متحدة إتحادًا سرائريًا بالذبيحة السماوية الفريدة.
الأب ثيودور يعطي تفسيرًا هامًا لذبيحة الإفخارستيا يدخلنا في الجزء الثالث لهذه الليتورجيا, إذ يربط ذبيحة المسيح بآلام الرب وقيامته: [ الآن علينا أن نري المسيح ينقاد لينطلق إلي آلامه وهو ممدًا فوق المذبح لكي يقدم نفسه ذبيحة. حقًا عندما تخرج التقدمات من داخل الأواني المقدسة, الصينية والكأس المقدس بحيث أن نتأمل كيف وهو منقاد نحو آلامه, يخرج المسيح ربنا] .
ويستمر الأب ثيودور في شرحه قائلاً: [ ليتنا نؤمن هكذا كيف أن فوق المائدة المقدسة المسيح موضوع كأنه في قبر وكيف أنه خضع للتو للآلام. لأجل هذا السبب فإن بعض الخدام يفردون قطعة من القماش (إبروسفارين) فوق المذبح لتشير إلي أكفان القبر, بينما أولئك الذين يقفون علي الجانبين يحركون الهواء حول الجسد المقدس يشيرون إلي الملائكة الذين ظلوا هناك لتكريمه حتى يرون القيامة] . يتبع أعداد التقدمات طقسين هما: غسل الأيدي وقُبلة السلام. يتأمل القديس كيرلس الأورشليمي "غسل الأيدي" قائلاً: [ رأيت الخادم يعطي الماء إلي القائمين علي الليتورجيا والكهنة المحيطين بمذبح الله لكي يغسلون أيديهم. لم يعطيهم الماء لأن أيديهم غير نظيفة جسديًا. هذا الإغتسال للأيدي هو إشارة أننا يجب أن نكون أطهارًا من كل خطية, أيضًا الأيدي هي رمز للنشاط ونحن نغسلها نعلن طهارة وبراءة أعمالنا] .
لكن أي أهمية لقبلة السلامة؟ يستمر كيرلس الأورشليمي قائلاً: [ دعونا نقبل الواحد الآخر ودعونا نعطي القبلة. لا تعتقد أن هذا القبلة هي القبلة المعتادة والتي يعطيها الأصدقاء بعضهم لبعض وهم في السوق. ليس هي مثل هذه القبلة. هذه القبلة توّحد النفوس فيما بينها وتمحي أي تذكر للشر. القبلة هي برهان لوحدة النفوس. لذلك يقول الرب: " إن قدمت قربانك إلي المذبح وهناك تذكرت إن لأخيك شيئًا عليك. فأترك هناك قربانك قدام المذبح وأذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذٍ تعال وقدم قربانك" (مت23:5ـ24)] .
والأب ثيودور يتعمق في أهمية هذا الطقس قائلاً: [ الكل يعطي ويأخذ السلام, وبهذه القبلة يكرزون بالوحدة والمحبة التي فيما بينهم. حقًا, بعد العماد قبلنا ولادة جديدة, والتي بها إتحدنا لنصير واحدًا, حيث نأخذ نفس الجسد ونفس الدم: نحن كلنا, بالرغم من أننا كثيرون, إلاّ أننا نُشكّل جسد واحد فقط, حيث نشترك في خبز واحد. إذن يجب أولاً أن نقترب من الأسرار,ونطبق قانون السلام والذي به نعلن وحدتنا والمحبة التي فيما بيننا, لا يتمشي مع هؤلاء الذين يشكلون جسد وكنيسة واحدة أن يمقتون أخ لهم] . هكذا فإن القبلة هي برهان لوحدة أعضاء جسد المسيح.
هذه الطقوس الثلاثة ـ التي سبق أن استعرضناها ـ تمثل الإستعداد أو التحضير للسر. هكذا نصل إلي طلبة التقديس الرئيسية, الأنافورا العظيمة والتي تُصلي علي الخبز والخمر. يتأمل القديس كيرلس الأورشليمي هذه الصلاة قائلاً: [ "أرفعوا قلوبكم" نعم, حقًا, في هذه الساعة المملوءة من المخافة المقدسة يجب أن نحتفظ بقلوبنا مرفوعة نحو الله وليست متجهه بعد نحو الأرض والأشياء الأرضية أيضًا يدعو الكاهن بطريقة مباشرة جميعكم أن تتركوا في هذه الساعة إنشغالات الحياة, أي الإنشغالات المعيشية, ولتكن قلوبكم متجه نحو السماء, نحو الله الذي هو محب للبشر. حسنًا أجبتم: هي عند الرب, معطين هكذا بإجابتكم الإمتثال لكلامه. ليت لا يوجد أحد يقول بشقتيه: هي عند الرب, وهو يحتفظ بفكره داخل إنشغالات الحياة. علينا دائمًا أن نتذكر الله. لو كان هذا, بسبب الضعف البشري, هو غير ممكن, علي الأقل هذه اللحظة ينبغي علينا أن نفعل هذا] .
يشدد كيرلس الأورشليمي علي أن طلبه "أرفعوا قلوبكم" تعبر عن المخافة المقدسة التي يجب أن تكون في قلوب المؤمنين في اللحظة التي فيها تتم "الليتورجيا الرهيبة". هذه المخافة المقدسة هي الإحساس الذي يستحوز قلب الإنسان عندما يجعل الله حضوره ظاهرًا. هذا التصرف هو متماثل مع تلك التي للملائكة في الليتورجيا السماوية, كما يشرح لنا ذهبي الفم قائلاً: [ يعبدون ويمجدون ويسبحون دائمًا بخوف ترانيمهم السرائرية] .
بالتالي مناخ هذا السر هو مناخ الليتورجيا السماوية ينعكس أيضًا علي الليتورجيا الأرضية. لذا علي الإنسان أن يقف أمام الله بخوف ورعدة . لأنه "ينبغي أن يقترب المرء بوقار إلي هذه الأسرار الرهيبة حقًا" .
يجب أن نربط رفع القلب إلي الله بتسبحة الثلاث تقديسات التي تسبح بها الكنيسة بعد ذلك. وهذا يعني أن الإفخارستيا هي الإشتراك في الليتورجيا السماوية. حقًا, الثلاث تقديسات هي تسبحة الساروفيم, لذا يقول ذهبي الفم [كما لو أن الإنسان إنتقل إلي السماء نفسها وهو يسبح هذه التسبحة المقدسة] . نفس التعليق نجده عند كيرلس الأورشليمي: [نذكر الشاروبيم الذي رأه أشعياء بمعونة الروح القدس يحيط بعرش الله ويقولون: " قدوس قدوس قدوس الرب إله القوات. لذلك نعلن هذه التسبحة اللاهوتية " التي نُقلت إلينا من الساروفيم, لكي نأخذ نحن مكانًا في التسبيح مع القوات الفائقة] . ويربط الأب ثيودور هذه التسبحة بروح المخافة والوقار أمام الله قائلاً: [ تستخدم الكلام الرهيب للقوات غير المنظورة, لكي تُظهر كم عظيمة هي الرحمة التي شملتنا مجانًا. المخافة تملأ ضميرنا أثناء فترة الليتورجيا سواء قبل تسبحة "أجيوس أجيوس أجيوس" أو بعدها, ناظرين نحو الأرض بسبب عظمة هذه الأمور التي تصير هكذا, مظهرين نفس المخافة] .
هذان الطقسان يعبران معًا عن حقيقة أن صلاة الإفخارستيا هي إشتراك بخوف ورعدة في الليتورجيا السماوية, فنحن لسنا بعد علي الأرض لكن قد إنتقلنا إلي السماء. هنا نجد ـ بحسب رأي الأب ثيودور ـ مفهوم "أرفعوا قلوبكم" . لقد صار المعمد حديثًا بالمعمودية في مرتبة الملائكة. إذن مركز العبادة هو فعل المسيح التقديسي في آلامه وقيامته. هذا الفعل المقدس هو متحرر من الزمن والمكان, ويمثل قلب الليتورجيا السماوية, والإفخارستيا تجعلها ذات حضور سرائري.
لقد وصلنا الآن إلي صلاة الطقسية المحورية التي بواسطتها تؤكد عظات الآباء أن الخبز والخمر يصيران بالتقديس جسد ودم المسيح, يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [ لا تعتبر الخبز والخمر أنهما مثل الخبز العادي والخمر العادي. إنهما جسد ودم المسيح وفق كلام المسيح نفسه] . ويستمر قائلاً: [ طالما تقدست بالثلاث تقديسات نتوسل إلي الله بأن يرسل روحه القدوس علي التقدمات الإلهية لكي يجعل من الخبز جسد له ومن الخمر دم له. والذي يسلمه الروح القدس هو مقدس ومتجلي] . نفس الأمر يؤكده الأب ثيودور قائلاً: [ عندما يقول رئيس الكهنة أن الخبز والخمر هما جسد ودم المسيح يعلن بوضوح ماذا صارا لهما بحلول الروح القدس] .
لقد رأينا أن التقديس يرتبط بحلول الروح القس الذي نطلبه بالإستدعاء, بينما القديس أمبروسيوس يربط التقديس بفعل المسيح: [ بالتقديس يصير الخبز جسد المسيح. بأي كلام يصير التقديس؟ بكلام يسوع ربنا. حقًا ما قيل "بواسطة المسيح" يقوله الكاهن. أنه يستخدم هنا كلام المسيح. ما هو كلام المسيح؟ إنه كلام المسيح الذي بواسطته صار كل شئ ] . هكذا, من جهة, التقديس الذي هو عمل الثالوث القدوس المشترك يرجع إلي الروح التي بها يتمم الله أعماله العظيمة في التاريخ, ومن جهة أخري, التقديس يُنسب إلي اللوغوس الخالق. لكن هذا الموجود علي المذبح ليس هو فقط جسد ودم المسيح لكن نفس ذبيحته, أي سر آلامه الخلاصية وقيامته وصعوده, الإفخارستيا هي ذكري لكل هذا: "وفيما نحن أيضًا نصنع ذكري آلامه المقدسة وقيامته وصعوده إلي السموات وجلوسه عن يمين الآب نقدم لك قرابينك علي كل حال ومن أجل كل حال" (القداس الإلهي). هكذا فإن ذبيحة المسيح التي تُقدم في كل مرة تعني موت الرب وقيامته وصعوده وغفرانه لخطايانا. ولا تستطيع أن تقول إنها ذبيحة جديدة لكن هي نفسها ذبيحة المسيح الفريدة التي صارت حاضرة. ويشدد ذهبي الفم علي هذا التعليم في تفسيره لرسالة العبرانيين: [ ألسنا نقدم يوميًا الذبيحة؟ نقدمها, لكن كذكري لموته الذي قُدم مرة واحدة, كما أنه مرة واحدة صار دخول إلي قدس الأقداس.الذكري تشير إلي موته. غنها نفس الذبيحة التي نقدمها واحدة اليوم وأخري غدًا. فالمسيح دائمًا هو الواحد, والكامل دائمًا, واحد فقط. وكما أن جسد واحد دائمًا, فإنه ذبيحة واحدة دائمًا, وهذه الذبيحة نقدمها أيضًا والآن. هذا هو مفهوم الذكري: لدينا ذكري (حضور) للذبيحة] . نري هنا تشديد ذهبي الفم علي الذكري الذكرى التي هي حضور ذبيحة المسيح الوحيدة والفريدة في الواقع وليس مجرد تذكر عقلي لها.
هكذا فإن ذبيحة المسيح هي نفسها الفعل الكهنوتي الذي صار في لحظة محددة من التاريخ, والذي هو حاضر حضورًا أزليًا في السماء, وهو موجود حقًا تحت الظواهر السرائرية. في الحقيقة إن فعل المسيح الكهنوتي في جوهره هو نفسه الفعل الذي به تصل الخليقة إلي هدفها, لأنه بواسطتها يتمجد المسيح.
هذا الفعل يتجرد من الزمن لكي يوجد وجودًا أزليًا وبالتالي السر يجعل هذا الفعل حاضر في كل الأوقات وفي كل الأماكن.
الجزء الأخير لسر الإفخارستيا هو التناول والذي يسبقه ترتيبيين: وضع الخبز علي الصينية ثم تقسيمه. نجد الأتي في النص المنسوب خطأ إلي ديونيسيوس: [ مثل هذه هي الدروس التي يعلنها رئيس الكهنة وهو يتمم طقوس الليتورجيا الإلهية عندما يكشف علنا التقدمات التي كانت منذ البداية مستترة عندما يقسم إلي قطع كثيرة (القربان), عندما ـ بوحدة السر الكاملة التي تعطي إلي النفوس التي تتناوله ـ يقبل الذين يتناولونه في الشركة الكاملة. يظهر لنا هكذا بطريقة محسوسة وكأنه أيقونة كيف أن المسيح يخرج من مذبحه السرائري والإلهي, لكي يأخذ شكل إنسان من محبته للإنسان, كيف أنه نزل ـ بدون تغيير في طبيعته ـ إلي مستوي ماديتنا المحسوسة, وكيف أن أفعال محبته لنا الملتهبة تعطي الجنس البشري إمكانية أن يأتي في شركة مع الله] (444C).
ويربط الأب ثيودور بين تقسيم الخبز بالحوادث التاريخية التي صاحبت قيامة المسيح قائلاً: [ الآن حيث الليتورجيا قاربت علي النهاية, يقسم رئيس الكهنة الخبز, مثلما الرب, أولاً, في ظهوراته مثلما حدثت مرة لواحد وأحيانا لآخر] .
هكذا التتميم الطقسي المحسوس يرمز لتناقل المسيح ـ لكن بدون أي تجزئة لوحدته ـ إلي النفوس المختلفة.
الإفخارستيا هي حقًا تمثل الغذاء الروحي الذي هو مستتر تحت الخبز والخمر: [ كما أنه لكي نستمر في هذه الحياة لنا الخبز غذاؤنا, بالرغم من أنه بطبيعته لا يمتلك أي خاصية مثل هذه, لكن هو قادر علي أن يحفظ حياتنا لأن الله أعطاه هذه المقدرة, هكذا نقبل الخلود ونحن نأخذ السر, لأنه بالرغم من أن الخبز ليس لديه مثل هذه الطبيعة, لكن عندما قبل الروح القدس, صار قادرًا لأن يقود هؤلاء الذين يأكلونه إلي الأبدية] .
الإفخارستيا هي فعلاً عربون للعطايا السماوية, إنها عربون الإشتراك في العشاء السماوي. هذا الغذاء الروحي لا يجب أن ننظر إليه إلاّ من خلال ذبيحة المسيح. فالإفخارستيا هي الاشتراك في هذه الذبيحة, أي في موت وقيامة المسيح. حقًا سر الآلام والقيامة لا يصير حاضرًا إلاّ فقط لكي يعطينا النتائج الفعالة, وبالتناول من الأسرار المقدسة تتفاعل هذه النتائج في النفس. لذلك فإن التعليم عن التقديس لا يبدو أنه مختلف عن التعليم عن الشركة (المناولة), طالما هو الاتحاد بس المسيح الذي مات وقام. والشركة هي الاشتراك في موت المسيح وأيضًا اشتراك في قيامته: [ كل مرة تقبل الإفخارستيا ماذا يقول لك الرسول؟ كل مرة تقبلونها تعلنون موت الرب. وإن كُنا نعلن موته فنحن نشهد لغفرانه الخطايا. إذن كل المرات ينسكب الدم, فإنه ينسكب لأجل غفران الخطايا يجب أن نقبله دائمًا, لكي تغفر لنا دائمًا الخطايا] .
الإفخارستيا كما يؤكد لنا غريغوريوس النزينزي [ هي الذبيحة غير الدموية التي بها نشترك في الشهادة لألوهية المسيح] : " آمين آمين آمين بموتك يارب نبشر وبقيامتك المقدسة وصعودك إلي السموات نعترف نسبحك نباركك نشكرك يارب ونتضرع إليك يا إلهنا" (القداس الإلهي).
هكذا يقول الأب ثيودور: [فكما بموت المسيح ربنا قبلنا الميلاد بالمعمودية هكذا الغذاء الروحي يعني أتذكر موت الرب الذي منحنا القيامة وتذوق الخلود حيث نحن ـ بموت ربنا ـ قبلنا ميلاد سرائري يجعلنا نأخذ ـ بنفس الموت ـ طعام سر الخلود. ونحن نشترك في السر نتذكر آلامه والتي بها سوف نحصل علي الخيرات الصالحة وغفران الخطايا] .
هكذا من بداية الاستعداد حتى التناول تحققنا من موضوعين رئيسيين في التعليم الآبائي من الإفخارستيا: الأول: فعل ذكري آلام وقيامة وصعود المسيح. والثاني: الاشتراك في الذبيحة وفي العشاء السماوي. وهذان الموضوعان يمثلان الأهمية الجوهرية للإفخارستيا.
صور ورموز الإفخارستيا عند الآباء
التقديس يُتمم في الليتورجيا بالطلبة العظيمة التي تبدأ بـ "نشكر الرب" وتنتهي إلي الاستدعاء. تبدأ بذكر أعمال الله العظيمة في الماضي. لدينا مثال جدير بالملاحظة في كتاب "تعاليم الرسل". فالأسقف يشكر الله من أجل خلق العالم والإنسان, من أجل الفردوس, من اجل ذبيحة هابيل, من أجل صعود أخنوخ, من أجل خلاص نوح, من اجل العهد مع آبرام, من أجل كهنوت ملكي صادق, من أجل التحرر من مصر . تستمر في ذكر أعمال الله العظيمة في العهد الجديد وأسرار المسيح, حتى تنتهي إلي الاستدعاء حيث يتوجه بطلب إلي الروح القدس الذي تمم هذه الأعمال العظيمة في الماضي لكي يستمر في عمله هذا في الحاضر.
هنا لدينا الشكر ثم الطلبة والرجاء, والاستناد علي الإيمان في هذا الذي فعله الله في الماضي لكي يؤسس الرجاء في تلك التي سوف يتممها الآن وفي المستقبل. هكذا يظهر الفكر المسيحي الاستمرارية بين العهد القديم والجديد والأسرار, إذ يدعونا إلي التفتيش علي الأمثلة أو النماذج الموجودة في العهد القديم. وبهذا المفهوم بأن النماذجية Τυπολογία للإفخارستيا ليست هي إلاّ شرح محتوي طلبة التقديس. هكذا الليتورجيا تبدو بالنسبة لنا كاستمرارية في الزمن الحاضر لأعمال العهدين المقدسة. لذا سوف نتناول ثلاثة نماذج أو أمثلة في العهد القديم
يشيرون إلي الإفخارستيا, وهم:
1ـ تقدمة ملكي صادق 2ـ المَنْ
3ـ مائدة العشاء
1ـ تقدمة ملكي صادق
الخبز والخمر اللذان قدما بواسطة ملكي صادق يعتبران كنموذج للأفخارستيا. يحدثنا القديس كليمندس الأسكندري عن [ ملكي صادق الذي قدم الخبز والخمر, الطعام المقدس الذي هو مثال للإفخارستيا] . ورسالة كبريانوس LXIII إلي كيكيليانوس هي في الحقيقة مخصصة لمحاربة الهراطقة الذين يرفضون استخدام الخمر في الإفخارستيا, ويستشهد بنصوص العهد القديم التي تقدم الخمر كمثال للإفخارستيا. ومن بين هذه النصوص الهامة هو النص الذي يذكر ملكي صادق: [ نري فيما قدمه ملكي صادق الكاهن سر ذبيحة الرب مصورة مسبقًا, وفق تأكيد الكتاب: ملكي صادق, ملك ساليم, قدم الخبز والخمر] .
يبدأ كبريانوس مظهرًا كيف أن ملكي صادق: هو مثال للمسيح, ويستند علي (مز4:110) "أنت الكاهن إلي الأبد علي رتبة ملكي صادق" "الذي هو كاهن الله العلي مثل ربنا يسوع المسيح الذي قدم إلي الآب ما قدمه ملكي صادق, أي الخبز والخمر, أي جسده ودمه" (704). هكذا, ملكي صادق هو مثال للمسيح, وتقدمته هي مثال لذبيحة المسيح لكن ـ كما قال كبريانوس ـ مثال لسر هذه الذبيحة: [ هكذا مثال الذبيحة الذي يتمثل في الخبز والخمر قد سبق وظهر في الماضي. وهذا بالضبط ما فعله الرب وتممه, عندما قدم الخبز وكأس مزيج الخمر والماء: هذا الذي هو الملء أكمل حقيقة الأيقونة الرمزية] (704).
مثال ملكي صادق يحتل قسم مشترك في عظات الآباء. القديس أمبروسيوس يقول: [ نعرف كيف أن مثال هذه الأسرار سبق عصر ابرآم, عندما قدم ملكي صادق ـ الذي ليس له بداية ولا نهاية ـ الذبيحة] . هذا المبرر استخدمه أمبرسيوس لكي يؤسس أولوية وأفضلية الذبيحة المسيحية تجاه الذبيحة الموسوية: [ اظهر هذا الذي أقوله,أي كيف أن أسرار المسيحيين هي أقدم من التي لليهود. إذا كان اليهود يرجعون أسرارهم إلي ابرآم, فمثال أسرارنا قد سبق (ابرآم), حيث أن رئيس الكهنة ملكي صادق قد سبق ابرآم وقدم له خبز وخمر. من كان لديه الخبز والخمر؟ لم يكن ابرآم بل ملكي صادق, بالتالي فإنه هو الذي تمم الأسرار] .
عند قراءتنا لنص أمبرسيوس نتذكر رسالة العبرانيين التي قدمت لنا ملكي صادق: " بلا أب بلا أم بلا نسب. لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبه (مثال) بإبن الله هذا يبقي كاهنًا إلي الأبد" (عب3:7).
هكذا في رسالة العبرانيين نجد ملكي صادق هو مثال للمسيح كرئيس كهنة أبدي. إن اختبار المسيح للخبز والخمر كمادة منظورة للإفخارستيا يجعلنا نقول إن أعمال المسيح هي محملة بذكريات العهد القديم, إذ يبدو كيف أن اختيار الخبز والخمر يحوي إشارة إلي ما فعله ملكي صادق الذي قدم أيضًا الخبز والخمر. وهكذا ما قيل عن كهنوت المسيح في رسالة العبرانيين هو مؤسس علي الأناجيل التي أخبرتنا بتقديم المسيح للخبز والخمر في العشاء الأخير.
يركز يوسابيوس القيصري علي المقارنة بين كهنوت ملكي صادق والكهنوت الإسرائيلي, مشددًا علي أن الكهنوت الإسرائيلي كان مقتصرًا علي سبط معين. بينما الكهنوت ملكي صادق كان كهنوتًا مسكونيًا وليس امتياز مجموعة خاصة: [ لم يُختار ملكي صادق من بين الناس ولا مُسح بزيت مصنوع] . علي الجانب الآخر, فإن عبادة العهد القديم انحصرت في مكان معين, هيكل أورشليم. وهذا كان إشارة ورمز للإله الواحد, فالمذبح الواحد. وفيما بعد يقول النبي ملاخي: " لأنه من مشرق الشمس إلي مغاربها اسمي عظيم بين الأمم وفي كل مكان يقرَب لإسمي بخور وتقدمة طاهرة لأن اسمي عظيم بين الأمم قال رب الجنود" (ملا11:1). والآباء يرون في هذه النبوة مثال للإفخارستيا: "ذبيحة الناموس الجديد التي تقدم في كل مكان" .
نفس الأمر يسري علي مواد الذبيحة (الخبز والخمر): [هذا الذي كان كاهنًا للأمم لم يظهر إطلاقًا لكي يقدم ذبيحة جسدية, لكن حيث أنه بارك إبرآم, قدم خبز وخمر بنفس الطريقة التي فعلها الرب أولاً ثم بعد ذلك أولئك الذين أستلموا منه كهنوتهم من كل الأمم, مقدمين ذبيحة روحية بحسب قوانين الكنيسة, أي أسرار الجسد والدم, الخلاص بالخبز والخمر, الأمر الذي فعله ملكي صادق بمعونة الروح القدس منذ سنين عديدة قبل الأمثلة أو النماذج التي أتت في المستقبل] .
لقد رأينا أثناء استعرضنا لصور وأمثلة المعمودية أن عبور البحر الأحمر هو مثال للمعمودية. أيضًا الإفخارستيا أُشير لها بالخروج, والمنْ وصخرة حوريب هما مثال مزدوج للمعمودية والإفخارستيا. يقول ذهبي الفم: [ هل رأيت في الإستعداد للمعمودية من كل المثال؟ وما هي الحقيقة؟ أنتبه أيضًا سوف أظهر لك أيضًا المائدة وشركة الأسرار... بعد تعليق بولس علي السحابة والبحر يستمر قائلاً: الكل شربوا شرابًا روحيًا واحدًا. ومثلما أنت بعد أن صعدت من جرن المعمودية مضيت نحو المائدة, هكذا هؤلاء عندما خرجوا من البحر أتوا إلي مائدة جديدة ومدهشة, أريد أن أقول: المن. ومثلما أنت لديك شراب سرائري واحد, هو الدم الخلاص, هكذا كان لديهم شراب معجزي واحد كان هناك حيث لا يوجد بتاتًا لا نبع ماء جاري, ماء وفير تدفق من الصخرة الجافة] .
نجد في نص ذهبي الفم الترتيب: 0المعمودية ـ الإفخارستيا) واضحًا جدًا. أيضًا نجد نفس الأمر عند الأب ثيودور: [ البحر الأحمر هو مثال لجرن المعمودية, عصا موسي: الصليب, فرعون: الشيطان, جنود فرعون: الشياطين, المنْ: الطعام الإلهي, الماء من الصخرة: دم المخلص. حقًا, كما أن أولئك بعدما عبروا البحر الأحمر ذاقوا الطعام الإلهي وماء النبع المعجزي, هكذا نحن, بعد العماد المقدس نشترك في الأسرار الإلهية] .
2ـ المَنْ
بينما يتبع التقليد الأسكندري فيلون اليهودي في أن المَنْ يشير إلي كلمة الله وفق ما جاء في إنجيل (مت4:4): " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله", فإن التفسير الإفخارستي للمن يستند علي (يو31:6ـ33): " أباؤنا أكلوا المَنْ في البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزًا من السماء ليأكلوا. فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم ليس موسي أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء. لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم. فقالوا له يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز. فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة..". وهذا التفسير نجده عند الآباء في عظاتهم. فالقديس أمبرسيوس بعد أن أظهر بمثال ملكي صادق أن الأسرار المسيحية هي قديمة عن اليهودية, يقول: [ هذا المَنْ هو معجزة عظيمة حيث أنزله الله إلي الآباء الأولين. لقد أطعموهم السمائيون بطعام يومي, كما هو مكتوب: "أكل الإنسان خبز الملائكة" (مز5:78). لكن الذين أكلوا مثل هذا الطعام ماتوا في البرية. لكن الطعام الذي تقبله أنت, أي الخبز النازل من السماء, ينقل لك جوهر الحياة الأبدية. إنه جسد المسيح وكما أن النور هو أعظم من الظلال والحقيقة من المثال, هكذا جسد الخالق أعظم من المَنْ السماوي] .
القديس أمبروسيوس يشدد ـ في نفس الوقت ـ علي التماثل الحقيقي بين المَنْ والإفخارستيا وتفوق الحقيقة علي المثال. لكن هذا التفوق لا يعني أن المَنْ ليس مثال للإفخارستيا. وهذا ما قاله أغسطينوس: [ المَنْ يعلن الخبز (الإفخارستي), مذبح الله يعلن الخبز (الإفخارستي), لكن هذان الاثنان هما فعلاً من ضمن الأسرار. الأمور الظاهرية تختلف, لكن الحقيقة هي نفسها. الطعام الجسدي هو شئ آخر, حيث أولئك أكلوا من المَنْ ونحن (نأكل) شئ آخر. لكن الطعام الروحي كان هو نفسه لأولئك ولنا نحن] .
المفهوم الأخروي للمَنَّ:
لقد أعطت اليهودية للمن المفهوم الأخروي. فكما أطعم الله شعبه بطعام معجزي في عصر الخروج القديم, هكذا سوف يفعل ذلك في أزمنة الخروج الأخروي. هذه الأهمية الأخروية للمنْ موجودة في العهد الجديد. فالقديس يوحنا يكتب في سفر الرؤيا: " من يغلب سأعطيه أن يأكل من المْ المخفي..." (رؤ17:2). والمَنْ يوضع في نفس مستوي شجرة الحياة: "من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة" (رؤ7:2), كمثال للإشتراك في الخيرات الإلهية للعالم الأخروي.
لكن بالنسبة للعهد الجديد فالهدف هو إظهار أن الطعام الأخروي هو فعلاً حاضرًا في الكنيسة بالإفخارستيا. هذا هو تعليم ليس فقط بولس الرسول لكن يوحنا الإنجيلي. في(1كو) حيث قال إن يهود الخروج أكلوا نفس الطعام الروحي يضيف قائلاً: "هذه الأمور حدثت مثالاً لنا" (1كو6:10). والقديس يوحنا يقدم لنا المسيح وهو يقول: " أباؤكم أكلوا المَنْ في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت...." (يو50:6ـ51). المثال الإفخارستي للمنَّ لا يمثل فقط جانب من تقليد الكنيسة المشترك لكن يمثل أيضًا تعليم المسيح نفسه.
لقد سبق أن رأينا أن ذهبي الفم والأب ثيودور يربطون صخرة حوريب بالمَنْ كمثال للإفخارستيا. فالمَنْ يشير إلي الخبز, وماء الصخرة إلي الخمر. وهذا يمثل تقليد كامل له بداياته عند القديس بولس (1كو4:10). ويوجد تقليد آخر يربط صخرة حوريب بالمعمودية, وله بدايته عند القديس يوحنا. فالقديس كبريانوس يرفض رؤية ماء الصخرة كمثال للخمر الإفخارستي . لكن التقليد الذي يري في ماء صخرة حوريب مثال للخمر الإفخارستي نجده عند عدد لا بأس به من الآباء.
فالقديس أمبرسيوس يذكر معجزة المَنْ لكي يبرهن علي سمو الأسرار المسيحية ثم يربطها بماء صخرة حوريب قائلاً: [ لأجلهم خرج الماء من الصخر, ولأجلكم خرج الدم من المسيح, الماء رواهم إلي حين, والدم يشبعكم إلي الأبد, اليهود كانوا يشربون وكانوا أيضًا يعطشون وأنتم بعد الشرب تصيرون فوق مستوي العطش, ذلك كان ظلا وأما هذا فهو حقيقة. فإذا كان ذلك الذي تتعجبون منه مجرد ظل, فكم ينبغي لذلك الذي تتعجبون من ظله أن يكون عظيمًا؟ أنظر الآن ما حدث كظل مع الآباء: "جميعهم شربوا من الصخرة التي تابعتهم والصخرة كانت المسيح, ولكن بأكثرهم يُسر الله لأنهم طُرحوا في القفر وهذه الأمور أصابتهم مثالاً لنا" (1كو14:10). فالآن يمكنكم أن تعرفوا أيهما أعظم, لأن النور أعظم من الظل, والحقيقة أعظم من الرمز, وجسد ذاك الذي يعطيه (لنا) أعظم من المَنْ الذي من السماء] .
والقديس أغسطينوس مثل أمبرسيوس يربط معجزة حوريب بالمَنْ كمثال للإفخارستيا, وهذا وفق كلام بولس: "شربوا شرابًا روحيًا واحدًا". أولئك شربوا شرابًا روحيًا واحدًا, ونحن شرابًا روحيًا آخرًا. لكن هذان (الشرابان) لا يختلفان فقط من جهة الشكل الخارجي, لأنه من جهة خواصهم السرية يعنون شيئًا واحدًا. كيف شربوا نفس الشراب؟ شربوا من الصخرة التي تابعتهم, وهذه الصخرة كانت المسيح. الصخرة هي مثال للمسيح, والمسيح الحقيقي هو اللوغوس متحد بالجسد. وكيف شربوا. ضُربت الصخرة بالعصا مرتين, والضربتين تعني طعنتي الصليب , سوف يلاحظ المرء الإشارة إلي صليب المسيح. القديس أمبرسيوس من جانبه يتحدث عن دم المسيح الذي تدفق وهكذا نري ظهور موضوع الدم الذي خرج من جنب المسيح فوق الصليب. نشدد حقًا علي أن التقليد القديم يري في الماء الذي تدفق من الصخرة في البرية مثال للدم الذي خرج من جنب المسيح المطعون. أي في الماء وفي الدم الذي خرج من جنب المسيح يري الآباء مثال للمعمودية والإفخارستيا, هكذا الماء الذي خرج من الصخرة يمكن أن يكون في نفس الوقت مثال للمعمودية وأيضًا للإفخارستيا.
3ـ مائدة العشاء
يربط القديس كبريانوس الأمور المتعلقة بمائدة الحكمة بحادثة ملكي صادق (أمثال5:9): [ "أيضًا من سليمان: تظهر لنا مثال ذبيحة الرب, ذاكرًا الضحية المذبوحه, الخبز, والخمر والمذبح: الحكمة, تقول, بنتَّ بيتها. نحتت أعمدتها السبعة. ذبحت ذبحها مزجت خمرها. أيضًا رتبَّت مائدتها. أرسلت جواريها تنادي علي ظهور أعالي المدينة. هلموا كلوا من طعامي وأشربوا من الخمر التي مزجتها. سليمان يتحدث عن خمر ممزوج, ونبويًا الخمر يعلن كأس الرب الذي يحتوي علي الخمر والماء .
نري هنا موضوعًا جديدًا الخمر والماء كمثال للإفخارستيا ويعبر عن الإتحاد بين اللاهوت والناسوت. الليتورجيا اليهودية بها عشاء مقدس داخل الهيكل فوق جبل أورشليم, وهذا العشاء كان العلامة المنظورة التي تبرهن علي أنه كيف أن المرء ينتمي إلي شعب الله. هكذا نقرأ في سفر التثنية: " لا تفعلوا هكذا للرب إلهكم. بل المكان الذي يختاره الرب إلهم من جميع أسباطكم ليضع أسمه فيه سكناه يطلبون وإلي هناك تأتون. وتقدمون إلي هناك محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم ونذروكم.. وتأكلون هناك أمام الرب إلهكم.. لا يحل لك أن تأكل في أبوابك عُشر حنطتك وخمرك وزيتك ولا أبكار بقرك وغنمك ولا شيئًا من نذورك.. بل أمام الرب إلهك تأكلها في المكان الذي يختاره الرب.." (تث4:12ـ7 ,17ـ18).
نجد في التقليد اليهودي سلسة النصوص التي تظهر لنا الخيرات الماسيانية المحفوظة إلي نهاية الأزمنة كعشاء مقدس. وأشعياء النبي يقدم لنا هذه الخيرات كعشاء: " أيها العطاش جميعًا هلموا إلي المياه والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا. لماذا تزنون فضة لغير خبز وتعبكم لغير شبع. إستمعوا لي استماعًا وكلوا الطيب ولتتلذذ بالدسم أنفسكم" (إش1:55ـ2, أنظر أيضًا إش11:65ـ13). أيضًا نجد موضوع العشاء الماسياني في الأدب الرؤيوي, فإشعياء يتنبأ ويقول: " ويصنع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن وليمة خمر" (إش25:6). وفي الأسفار غير القانونية مثل عزرا وغيره من الأسفار تشير إلي عشاء إبن الإنسان, وهذا ما نجده في (لو22:29): " وأنا أجعل لكم كما لي أبي ملكوتًا. لتأكلوا وتشربوا علي مائدتي في ملكوتي".
هكذا العشاء الماسياني هو ـ من جهة ـ يظهر بنفس الملامح مع العشاء الليتورجي داخل هيكل أورشليم. يصير " داخل بيت الحكمة" (أم1:9) أي داخل الهيكل ويصير أيضًا فوق الجبل(إش6:25). الجبل هو صهيون حيث يسكن الله, وحيث يظهر العصر الماسياني. يصير في المدينة (عزرا52:8). أورشليم الأرضية ترمز إلي السمائية. لكن في نفس الوقت العشاء يتخطي العشاء الليتورجي الذي ليس إلا مثال للعتيد أن يكون: يظهر نوعية ووفرة تبرهن أننا لسنا بعد في العالم الحاضر لكن داخل عالم متجلي (إش6:25, 1:55). أنها الخيرات الروحية (إش3:50) التي يُرمز لها بالأطعمة المنظورة في العشاء الليتورجي. أخيرًا بينما في العشاء اليهودي يُقبل فقط أعضاء شعب الله, نجد أن في العشاء الإسخاتولوجي كل الشعوب مقبولة (إش6:25).
إذن ظهرت نماذجية العشاء المقدس من زمن العهد القديم. والعهد الجديد يؤكد كيف أن العشاء تُمم بالمسيح. هنا يجب أن نعطي أهمية إلي الموائد التي شارك فيها المسيح وذكرت في الأناجيل. هذه الموائد لها أهمية ماسيانيه, بمعني أنها تعبر عن الفرح الذي تنبأ عنه الأنبياء. وهذا نراه عندما ذهب يسوع ليأكل في بيت متى حيث أُعثر تلاميذ يوحنا: " وكان تلاميذ يوحنا والفريسيين يصومون. فجاءوا وقالوا له لماذا يصوم تلاميذ يوحنا والفريسيين وأما تلاميذك فلا يصمون", فأجاب المسيح "هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا والعريس معهم. مادام العريس معهم لا يستطيعون أن يصوموا" (مر18:2ـ19). هكذا الموائد التي اشترك فيها المسيح كانت تعبيرًا عن ملمح الفرح الماسياني الناتج من حضور المسيح. وحديث المسيح هذا كان يسبق حادثة قطف تلاميذ يسوع للسنابل وهو سائرون يوم السبت, وتذمر الفريسيين علي ذلك, مما جعل البعض يعتبر أن هذا الحدث يعلن العشاء الأخروي ونفس الوقت يعلن الإفخارستيا. أيضًا الإنجيلي لوقا يذكر حديث المسيح ضد الفريسيين قائلاً: " لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزًا فتقولون به شيطان. جاء إبن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هوذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاه" (لو34:7), قبل المائدة التي اشترك فيها المسيح في بيت سمعان الفريسي حيث قبل يسوع دخول المرأة الخاطئة. هكذا أراد المسيح أن يزيل الحواجز بين الخطاة والله. وكما أن معجزة اشباع الجموع بمباركة الخبز نعتبرها كتحقيق لمثال المَنْ وفي نفس الوقت نبوة عن الإفخرستيا, هكذا هذه الموائد التي اشترك فيها المسيح هي كنموذج لقبول الأمم في الشركة المسيانية التي تتحقق في الكنيسة. هكذا, في نص لوقا يكرز بأنه " أكلنا قدامك وشربنا" في أثناء حياته الأرضية لا تمثل تحقيق للوعود. حقًا "هناك يكون البكاء وصرير الأسنان متى رأيتم إبراهيم واسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وأنتم مطروحين خارجًا. ويأتون من المشارق والمغارب ومن الشمال والجنوب ويتكئون في ملكوت الله" (لو28:13ـ29). هذا الكلام إشارة إلي قبول الأمم في الكنيسة.
وتحقيق هذا العشاء الماسياني مع دعوة الأمم يؤكد أيضًا نفس هذا النص بمثل العشاء العظيم الذي ذُكر في إصحاح (15:14ـ24) عندما قال أحد من المتكئين للمسيح: "طوبي لمن يأكل خبزًا في ملكوت السموات" حينئذٍ أجاب المسيح: "إنسان صنع عشاء عظيمًا ودعي كثيرين... حينئذٍ غضب رب البيت وقال لعبده أخرج عاجلاً إلي شوارع المدينة وأدخل إلي هنا المساكين والجُدع والعُرج والعُمى" (يو16:14ـ21).
نلاحظ كيف ن النص يشير بوضوح إلي موضوع العهد القديم الذي بدأناه بموضوع مائدة الحكمة كما كتب عن ذلك أوريجانوس في تفسيره لنشيد الأنشاد .
وكما في سفر الأمثال أرسلت الحكمة جواريها تدعو المارين إلي مائدتها, هكذا السيد المسيح في المثل أرسل عبيده ليدعوا الذين يريدون أن يحضروا إلي المائدة المُعدَّة هكذا ظهرت الكنيسة كبيت الحكمة حيث يُعطي الخبز والخمر ليس كمثال بل كسر للحقائق الإلهية. لذا نري القديس أمبروسيوس يقول: [ هل تريد أن تأكل, هل تريد أن تشرب. تعال إلي مائدة الحكمة المدعو إليها جميع البشر بصوت عالي: تعالوا كلوا خبزي واشربوا خمري الممزوج. لا تخاف سوف لا يغيب عن مائدة الكنيسة عطور مفرحة أو أطعمة لذيذة, أو مشروبات متنوعة, أو الخدام الماهرين. هناك سوف تقطف المُر أي قبر المسيح, سوف تقوم أنت أيضًا من الموت, كما قام ذاك (المسيح). هناك سوف تأكل الخبز الذي يقوي قلب الإنسان, سوف تشرب الخمر لكي تبلغ ملء قياس قامة المسيح] . هكذا نفهم أن الإفخارستيا هي ذبيحة روحية ومسكونية, غنها طعام شعب الله أثناء مسيرتهم نحو أرض الميعاد, وأنها مشاركة كل الأمم في شركة الخيرات الإلهية.




الخميس، 14 أكتوبر 2010




هل المجتمع المتدين مجتمع متخلف؟
د.جورج عوض إبراهيم
نعم المجتمع المتدين هو مجتمع متخلف، إذا نادى الدين بالتواكل بدلاً من أن نشجع الإنسان لتفعيل القدرات التي أودعها الخالق فيه ويعمل على تطوير المجتمع ومواجهة مشاكله بنفسه. نعم المجتمع المتدين هو مجتمع متخلف إذا أعتمد على الأفكار الغيبية بدلاً من استخدام العقل والمنطق. نعم المجتمع المتدين هو مجتمع متخلف إذا لم ينحاز للإنسان واعلاء شأنه والاعتراف بحقوقه. نعم المجتمع المتدين هو مجتمع متخلف
إذا لم ينحاز للإنجازات البشرية البناءة التي تستند على العلم وعلى قدرات الإنسان الذي هو تاج الخليقة.
الخطاب المسيحي يتبني قول المسيح «الإنسان ليس لأجل السبت بل السبت لأجل الإنسان». أي أن الإنسان يحتل المكانة المركزية في الخطاب المسيحي، إذ هو مخلوق «بحسب صورة الله ومثاله». إن دعوة الإنسان ليست مجرد أن يعيش في العالم، قانعاً بالأشياء التي حوله كما هي، لكن أيضاً لكي يستخدم العالم ويطوره ويشكله، ولا يكتفي بهذا، بل يري العالم كعطية من الله، لذا يقدم مرة أخرى هذه العطية الإلهية إلى العاطي كعطية شكر (إفخارستيا). هكذا لأننا مخلوقون بحسب «صورة الله ومثاله» فنحن نشترك في العمل مع الله (1كو9:3)، بالفن والشعر وبالتكنولوجيا والبحث العلمي ونجمل الخليقة المادية ونجعلها قادرة على أن تمجد الله. فالخليقة تمجد الله من خلالنا نحن البشر.
إن الكون – في الخطاب المسيحي – مخلوق بطريقة تجعله في حاجة إلى من يُضفي معنى على المخلوقات. فالعالم من نفسه لا يستطيع أن يكون كاملاً ولكنه في حالة تجعله يحتاج للكمال. إن تشجيع البيئة العلمية لتحقيق إنجازات علمية وتكنولوجية في كافة المجالات من اكتشاف أسرار الكون إلى اختراق الأمراض المستعصية التي تُعجل بقتل الملايين، هو في الأساس تشجيع لأن يمارس الإنسان الإمكانيات والقدرات التي أودعها الله فيه عند الخلق وذلك طالما أن هذه الإنجازات هي لخير البشرية. واستمرارية الإنسان بأبحاثه لإيجاد حلول لمشاكل مستعصية في كل المجالات يثبت بالبرهان القاطع أن الإنسان مخلوق «بحسب صورة الله ومثاله».
إذاً الرسالة المسيحية تشجع التربية التي تصقل العقل وتنمي القدرات على النقد والإبداع والابتكار، وعلى الفهم والتحليل. فالخطاب المسيحي لا يجد صراعاً بين الإيمان والعلم، بل يري أنه من الإيمان أن نشجع العلِم الذي يرفع الإنسان ويرقي بالمجتمع، هكذا الخطاب المسيحي ليس معنياًَ فقط بالحالة الروحية للإنسان ولكن بحياة الإنسان كلها وبعلاقتها المتعددة.






الجمعة، 8 أكتوبر 2010


المسيحية والحضارةد. جورج عوض ابراهيمتعريف الحضارة:يقول وول ديورانت صاحب كتاب "قصة الحضارة":
" الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي وتتكون من عناصر أربعة هى: المواردالاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، والعلوم والفنون. وهى تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما آمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذٍ لا تنفك الحوافز الطبيعية وتستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وإزدهارها "
[1].
الحضارة بصفة عامة تمثل انتصار الإنسان على الجوانب المظلمة الموجودة في ذاته والمجتمع، هى تخطي الإنسان لكيانه البيولوجي، هو فعل الإنسان الواعي وسعيه لتنظيم حياته وعلاقاته مع الوسط المحيط به، إنها تحقيق لقدرات الإنسان المتنوعة وفق منهج ودرجة من العمق. نجد ـ هكذا ـ في الحضارات المختلفة بعض العناصر الثابتة،
مثل:أ ـ تشكيل نظام إجتماعي وطريقة معينة للتفاهم ولغة واحدة.
ب ـ حلول تعطيها الحضارة لاحتياجات الإنسان المعيشية والمتعلقة بالمسكن وتأمين حياته من جهة الموارد الاقتصادية والعمل التقني.
ج ـ نُظم خاصة بالعيش المشترك للوحدة البشرية الأساسية لأى مجتمع: الرجل ـ المرأة لدوام بقاء النوع الإنساني.
د ـ منظومة للوجود المشترك بين الناس،و للوطن،و للعلاقات مع الآخرين.
هـ سن تشريعات قانونية يُحدد بمقتضاها ما هو الخير؟ وما هو الشر؟
و ـ معايشة الاعتقاد الديني عن ما هو "مقدس" في الحياة اليومية على شكل ديني.
هكذا، الحضارة تعطي سلسلة من الاجابات والحلول على ما يحتاجه الموجود البشري، لذا فهى تشكل له هذا الوجود، فتحدد له طريقة المعيشة (النظم الاقتصادية)، أيضًا تحدد له ما هو الخير والشر (الناحية الأخلاقية)، وكذلك البحث عن الحقيقة (فلسفة وعلم)، واعلاء قيمة العدل والمساواة (القوانين)، والجمال (الفن).
هناك تمييز فضّله البعض بين مصطلح المدينة أو التحضر Civilization ومصطلح الثقافة أو الحضارة Culture . فبالمصطلح الأول تُحدد الحضارة التقنية والمادية بينما بالمصطلح الثاني تُحدد الحضارة الروحية (الفكرية).
والانفصال بين الاثنين أُستخدم في الغرب في عصر معين سادت فيه الثنائية بين المادة والروح. لكن في الفكر المسيحي الأرثوذكسي هناك وحدة لا تنفصل بين المادة والروح، لذا فالمصطلحين هما وجهين للعمل البشري الخلاّق.

الحضارة في القراءة العربية:
منذ أوائل القرن التاسع عشر تم ترجمة كلمة Civilization بمعنى "المدنية" حيث تُرجم في عهد محمد على باشا كتاب "إتحاف الملوك الألباب بسلوك التمدن في أوربا "، كما استخدم رفاعة الطهطاوي في كتابه "مناهج الألباب المصرية" مفهوم التمدن في التعبير عن مضمونه الأوروبي ومشيرًا لوجود بُعد التمدن في الدين والشريعة. إذًا المدنية هى حالة من الثقافة الاجتماعية تمتاز بارتقاء نسبي في الفنون والعلوم وتدبير الحكم. لكن ابتداء من الربع الثاني من القرن العشرين تُرجمت Civilization إلى كلمة "حضارة". والجدير بالملاحظة أن الاختلاف بين الترجمتين: المدنية والحضارة هو اختلاف لفظي لأننا نلاحظ أن مفهوم "الحضارة" هو نفسه مفهوم "المدنية" فالمحتوى واحد. فعادةً يربط مفهوم الحضارة إما بالوسائل التكنولوجية الحديثة أو بالعلوم والمعارف والفنون السائدة في أوروبا، أى خلاصة التطور الأوروبي الحالي. وينطلق هؤلاء من أن الحضارة هى جملة الظواهر الاجتماعية ذات الطابع المادي والعلمي والفني الموجود في المجتمع، وأنها تمثل المرحلة الراقية في التطور الإنساني.
الرسالة الإنجيلية:يُعلن لنا الإنجيل أن الجنس البشري ـ الذي كان يعيش بتوجهات وأفكار وحضارات مختلفة ـ أتت إليه لحظة حاسمة فيها دخل الله نفسه إلى واقع البشر التاريخي، فـ " الكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا " (يو14:1). هنا نشأ مركز حيَّ جديد للإبداع البشري، وإمكانية لتفعيل جديد يوجّه الجنس االبشري وكل الخليقة إلى "غاية" جديدة. فدخول ابن الله في التاريخ الإنساني، يعني ببساطة " أن السبيل المسيحي ليس مسألة قبول بعض المبادئ النظرية عن الله، بل هو في الأساس طريق وحياة. الكنيسة في الأساس هى الشركة مع من يكشف كل شئ، خالق الحياة الجديدة، الفادي والمخلّص"[2].
هكذا الجديد هنا ليس مجرد فكرة، أو مبدأ، أو مجرد قول حق يكرز به شخص حكيم (بوذا) أو مجرد نبي يعلن أنه قبل اعلانًا من الله، لكن شخص يسوع المسيح: الإله الإنسان الذي وحّد ـ بطريقة لا توصف ـ الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية، الذي وحّد كل البشرية في شخصه، هذا الشخص الذي ربط التاريخ (الواقع البشري) بالأبدية " لأجلنا ولأجل خلاصنا" صُلب وقام وصعد وسيأتي ثانية ديانًا للعالم. لم يصحح مسيرة البشرية على أساس مبادئ نظرية معينة بل أكد أنه هو "الطريق والحياة"، "القيامة والحياة" (انظر يو25:11ـ26). فالمسيح الذي هو "أمس واليوم وإلى الأبد " (عب8:13) يظل متحدًا بلا إنقطاع بطبيعتنا البشرية وهو نفسه يقودنا إلى غايتنا السامية إلى حياة القداسة والكمال. هنا توجد نواة الإنجيل.
إنجيل المسيح يغير جذريًا الطبيعة البشرية ويغرز فيها قوة التغيير: من إنسان ساقط منعزل إلى إنسان جديد يصنع شركة مع الله. فالمسيح هو قوة الله وحكمة الله (1كو24:1) لكل الذين يؤمنون به بغض النظر عن الحضارة التي ينتمون إليها. ويظل الإنجيل يحمل قوة بالرغم من إخفاقات المسيحيين في تطبيق رسالته. فالإنجيل في جوهره يظل هو المعيار لأي جماعة مسيحية موجودة. لكن نحن نتكلم عن الإنجيل كما فهمته الكنيسة وليس عن إنجيل آخر من نتاج خيالات بشرية مريضة. لذا أى تجديد يحدث لجماعة مسيحية يأتي من إعادة العثور على نواة الإنجيل كما فهمتها الكنيسة ـ والمعبرون الصادقون عن الإنجيل ليس هم العارفون بنصوص الكتاب المقدس بل أولئك الذين يحيون سر الإنجيل في حضور الروح القدس الذي ينير عيون أذهانهم ليتمسكوا بالحق، هؤلاء يشعون بالمجد الإلهي والمحبة بسلوكهم وأعمالهم.

الحضارة من منظار مسيحي:
القول بأن الحضارة هى تحقيق بشري بينما رسالة الإنجيل هى تدخل إلهي، هو قول بسيط واضح ولكنه لا يكفي. فغير المعقول أن نُسلم بأن الحضارة تمثل نتاج محاولات من البشر القابعون أسفل، بينما الرسالة المسيحية هى من فوق، نتاج إلهي أى من الله الساكن في أعلى السموات. فالحضارة كإنجاز إنساني لا توجد خارج إشعاعات الأعمال الإلهية. فالإنسان الذي صنع الحضارة هو إنسان مخلوق "بحسب صورة الله" وأفعاله هذه ليست خارج إمكانيات الخلق "بحسب صورة الله" حتى بعد السقوط. لأننا نعلم من آبائنا القديسين ومعلّمي الكنيسة أن الإنسان بسقوطه لم يُدمر تمامًا الخلق "بحسب صورة الله" بل حدث بحسب تعبير القديس أثناسيوس "تشويه" لهذه الصورة. إذًا لم يتوقف تمامًا الإنسان على أن يكون مخلوق "بحسب صورة الله". وبالتالي أفعاله الصادقة والبناءة لا تخرج من دائرة عمل الله، ونسمة الروح القدس. هكذا عمل الإنسان الإبداعي هو تطبيق للإمكانيات التي أودعها الله في الإنسان منذ خلقته
[3].
لقد ظلّ الإنسان قابلاً لمشورة الله ولأفعال الروح القدس (من الخارج). فالحضارة مرتبطة بإبداع الإنسان، وهذه الإمكانية الإبداعية
قد وضعهما الله في الإنسان كما قُلنا منذ الخلق. وفي سفر التكوين نجد أن الله أعطى الإنسان:1 ـ أن يعمل ويحفظ الفردوس (العمل التقني)
2 ـ أن يُسمي الحيوانات (تك15:2ـ19) (اللغة ـ التواصل)
هنا نجد عنصرين هامين يعملهما الإنسان: العمل ويربطها "تيليك" بالتكنولوجيا وأما تسمية الحيوانات يربطه باللغة
[4]. أيًا كان تفسير تيليك، فالمهم هو أن الإنسان أُعطى له مهمة أن يعمل وأن يكون مسئولاً عن بقية الخليقة. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يُبدع ويصنع حضارة وتاريخ بيينما الكائنات الأخرى (الحيوانية مثلاً) تخضع لما هو موجود وتتكيف معه ولا تستطيع أن تبدع وتصنع حضارة. هكذا إبداع الحضارة هو الاختلاف الجذري بين الإنسان والحيوان. فالإنسان دائمًا في حالة استفزاز من البيئة المحيطة المفروضة عليه، هو دائمًا في حالة إبداع، ينزعج من الموجود ويريد أن يبدع عالمه الخاص، لقد عاش هذا المخاض كل الفنانيين العظام، فمايكل أنجلو على سبيل المثال، كان يردد قائلاً: متى ينتهى عملي مع هذا المرمر (التمثال)، حتى أستطيع أن أتفرغ لعملي الخاص؟ ونفس الأمر كان يحدث مع بيكاسوا. إن دعوة الإنسان ليست هى مجرد أن يعيش داخل العالم، قانعًا بالأشياء التي حوله كما هى، لكن أيضًا لكي يستخدم العالم ويطوره ويشكّله، ولا يكتفي بهذا، بل يرى العالم كعطية من الله، لذا يقدم مرة أخرى هذه العطية الإلهية إلى العاطي كافخارستيا. فالإنسان خُلق "بحسب صورة الله ومثاله" (تك26:1) وهذا له علاقة مباشرة مع مفهوم التسلط على "سمك البحر وطيور السماء والوحوش وكل الأرض" (تك28:1). إذ مارس آدم سلطانه بإعطاء اسم لكل المخلوقات الحية (تك19:2). هنا نرى مباشرة الإنسان يُشكّل بيئته الطبيعية، ويعطي مفهومًا وإتجاهًا للأشياء التي توجد حوله. فعندما يوجد شئ ليس له اسم يظل غير محدد وبلا شكل، ولا يخطر هذا الشئ على تفكيرنا ولا نستطيع أن نستخدمه. لكن مجرد أن تعطى اسمًا لشئ مباشرةً، تحدد علاقته معنا، ونحن عندما نعطي اسمًا لشئ، فلكي نميزه عن بقية الأشياء المحيطة بنا ونبدأ بعدها في فهم طبيعته المميزة. إذًا أن نعطى اسمًا لشئ يعني أننا أعطيناه مفهوم ومعنى لم يكن لديه قبلاً. هكذا لأننا مخلوقين بحسب "صورة الله ومثاله" فنحن نشترك في العمل مع الله (1كو9:3) بالفن والشعر وبالتكنولوجيا والبحث العلمي ونجمل الخليقة المادية ونجعلها قادرة على أن تمجد الله. إذًا الحضارة ليست نتاج بشري صرف بل هى إبداع وهبة من الله. والحضارة مرتبطة بالأصالة الإنسانية كما أرادها الله وأودع في الإنسان الإمكانية لصنعها منذ الخلق. ولكن بسبب السقوط إنزلق الإنسان بعيدًا عن غايته الأصلية ودخلت عناصر سلبية في صُنعه للحضارة. لأن قوته الإبداعية فقدت صلاحها وتمحورت حول ذاته. واحتاج الإنسان لعلاج جذري ليسترد عافيته فأتى الله نفسه وتجسد في المسيح يسوع لكي يعيد خلقة الإنسان مرة أخرى ويجدد فيه كل الإمكانيات التي بمقتضاها يستطيع أن يشفي ـ بدوره ـ الحضارات الإنسانية التي أصابها المرض في الجزء الأكبر منها.

موقف المسيحية من الحضارات:
إنطلاقًا من الإيمان بأن الله لم يترك الإنسان ولم يكتفي بالسكنى في سماء لا يُقترب منها ـ كما تزعم بعض الديانات الأفريقية
[5]. وهذا الموقف من الله يبين أن مسيرة البشرية كانت تحت بصر ونظر الله. لقد عقد عهود مختلفة منذ سقوط الإنسان: مع آدم وحواء ممثلي الجنس البشري كله ثم مع نوح والجماعة البشرية التي أُنقذت بالطوفان، كذلك مع ابرآم كرئيس شعب سوف يأتي منه المسيح، ثم مع موسى قائد ومشرع إسرائيل، والذي إضطلع بدور خاص في خطة الله الخلاصية. والحضارات نمت وامتدت في هذا المجال. أما الموقف اللاهوتي الذي يؤخذ تجاه حضارات أخرى يعتمد على مدى فهمنا للتدين البشري خارج الإطار الكتابي. فالواحد وعشرون حضارة التي حصرها توينبي Toynbee نمّت على أساس التدين والميل ناحية العنصر "المقدس"، لذا ـ كما قلنا ـ الفهم الصحيح لهذا التدين هو مفتاح هام لوقف صحيح تجاه الإبداعات الحضارية. موقف الغرب البروتستانتي تجاه الإبداعات الحضارية المؤسسة على التدين غير الكتابي يتأرجح بين الرفض المتطرف (على سبيل المثال: التعاليم اللاهوتية لكارل بارث Barth) والقبول المطلق (على سبيل المثال Otto, Heiler, Benz). أما بخصوص الكنيسة الأرثوذكسية، ففي العصر الآبائي دخلت في حوار عميق مع الحضارات ولم تعطى فرصة للآخرين بالقيام بهذا الدور. لم يتخذ الآباء موقفًا نقديًا تجاه الحضارة اليونانية بل تعمقوا في نسيجها، الأمر الذي جعلهم يكتشفون أرضيات مشتركة مع هذه الحضارة. على سبيل المثال بالنسبة للعبادة: قبلت الكنيسة عددًا من العناصر كانت في الحضارة اليونانية، فعمدت إلى مسحتها كالأعياد الطبيعية والاحتفالات وهذا ما حدث أيضًا بالنسبة للكنيسة القبطية وموقفها تجاه الحضارة المصرية القديمة. أما على مستوى الفلسفة فإن كل الأسئلة التي أثارها العقل اليوناني اعتبرها الآباء واردة وأعطوا لها حلولاً، بالإضافة إلى اهتمام هذا العقل اليوناني بالميتافيزيقا وهذا في الأساس غريب عن الكتاب المقدس والتراث السامي[6].
وكانت المصطلحات اليونانية تُستخدم في نطاق اللاهوت بدون تردد. وقد اعتمدت اللغة اليونانية في البقاع التي لا تتكلم بها. وهذا ما حدث عندنا في الكنيسة القبطية، الأمر الذي يستطيع أى أحد أن يلاحظه بسهولة في صلوات الكنيسة ونصوصها الليتورجية الممثلة بالمصطلحات اليونانية. واستخدام اللغة اللاتينية في الغرب لم يطرح أية مشكلة على مستوى وحدة الكنيسة. الأمر الهام في كل هذا، أن الإنجيل حافظ على جوهرة ورسالته وتوجههالأخروى على أساس قيامة المسيح وصورة المسيح وصورة الملكوت المحققة في سر الافخارستيا.
والقديس والشهيد يوستينوس (+165م) كان له موقفًا أكثر تفاهمًا مع الإبداعات الحضارية غير الكتابية بمناداته بـ "بذرة اللوغوس"
[7]، كذلك كليمندس الأسكندري (+215م) اعتبر أن الفلسفة اليونانية هى تمهيد تربوي للراحة في المسيح[8]. والمؤرخ الكنسي )يوسابيوس القيصري (+339م يشدد على مسكونية الاعلان الإلهي في كل الأمم وكل البشر وأن هناك شعورًا دينيًا مغروسًا فيهم. ويعتبر هذا المؤرخ أن الذين يتوقون إلى الله هم "شهود" "للبر" مثل المسيحين[9]. والقديس غريغوريوس اللاهوتي يؤكد على أن الإنسان المخلوق "بحسب صورة الله" لم يفقد نهائيًا جنسيته الإلهية، لذا إبداعه في المجال الحضاري يتعلق بشوقه إلى الله[10]. فإنجازات الفكر الإنساني لا توجد خارج خطة ومعونة ومحبة الله. عمومًا في الشرق المسيحي تأسس موقف الكنيسة على تأكيد بطرس الرسول: " بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه. بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده " (أع35:10)، وكرازة بولس الرسول: " به نحيا ونتحرك ونوجد " (أع24:17ـ28). فكل العناصر البشرية تتحرك في مجال تأثير شمس البر. التفائل والأمل في الخبرة المسيحية الشرقية تستندان على أن مجد الله امتد وشمل كل العالم. إن جوهر الله لا يُدنى منه وغير معروف لكن أفعاله غير المخلوقة ومجده يملأ السماء والأرض.
ليس معنى ذلك أن الرسالة المسيحية كان لها موقفًا إيجابيًا فقط تجاه الحضارة، بل علينا أن نعرف أن الموقف الإيجابي كان تجاه العناصر الإيجابية الموجودة في الحضارة. وكان هناك موقفًا رافضًا بل مهاجمًا للتقاليد الوثنية، فأخذ الآباء ينتقدوا ويشجبوا الحضارة الوثنية وتصدوا لها بجسارة. لكن كانوا في نفس الوقت منفتحين على ما هو إيجابي من جهة الاعداد لتفسير البشري السارة. وقد كتب القديس باسيليوس الكبير رسالة "إلى الشباب" يدعوهم للإستفادة من الأدب اليوناني علينا أن ننتبه جيدًا لما قاله البروفيسور قسطنطين سكوتيريس بخصوص موقف الكنيسة تجاه الحضارة اليوم: " إننا نعيش في حقبة من التاريخ باتت فيها المنجزات الإنسانية أمورًا مطلقة لا بل مؤلهة، زماننا هو زمان صنمية جديدة أو وثنية جديدة، حيث إن الإنسان الذي هو دون المقاييس المدنية القائمة، يعتبر مخلوقًا دون (أو ذا قيمة متدنية). وأعتقد أن هذا مشكلة ليس فقط لمجتمعاتنا المدنية، بل هو مشكلة لكنائسنا الحاضرة. والعديد من المشاكل التي تواجهها كنائسنا ترتبط بعقلية تجعل الحضارة المرهونة في قمة الإهتمامات والقيم. وينسى المسيحيون عادةً أن الحضارة يمكنها أن تكون الوسيلة إلى فهم مسيحي، إلاّ أن هذه الحضارة لا يمكنها في أى حال، أن تكون البديل عن رسالة الإنجيل. ومن واجبنا كمسيحيين أن نواجه السؤال ومن واجبتنا المهمة أيضًا أن نقرأ أن تقدير مفرطًا للمنجزات الحضارية من شأنه أن يجعل الإنسان أسيرًا وعبدًا لمنجزاته وتطلعاته. وإذ نجعل الحضارة في مركز كل نشاط إنساني، وهدفًا وأرضية للوجود الإنساني، إنما نعمل على تغريب الإنسان عن نفسه. وفي هذه الحالة نحن نفصل الإنسان عن إنسانيته العامة، ونفصله عن الله وعن اخوته وعن طبيعته أيضًا "
[11].إذًا عندما تتقابل الكنيسة مع حضارة معينة تمضي في ثلاث مهمات أساسية:الأولى: تقبل الكنيسة كل العناصر الإيجابية والتي تتفق مع رسالة الإنجيل.
الثانية: ترفض عناصر أخرى (وثنية) لا تتفق مع رسالة الإنجيل.
الثالثة: تنقل دم جديد وروح جديدة لهذه الحضارة.
أما الإخفاقات التي إنتابت اليوم حاملي الرسالة المسيحية بحسب رأى المطران يوحنا زيزيولاس
[12] تتلخص في الآتي:1 ـ ثمة إخفاق على صعيد العالم بعمق وحق، إذ حدث خلطًا بين الإنجيل والقيم الحضارية والإثنية في بعض الأزمنة. وفي حالات كثيرة اختلطت الإرساليات المسيحية بدعوة قامت على فرض المسيحية على شعوب لم تكن مسيحية، دون مراعاة للخصوصيات الحضارية عند تلك الشعوب.
2 ـ تبني لغة دفاعية وحقدًا بين المسيحيين أنفسهم مما سبب تقسيم مأسوي في المسيحية نفسها. هناك عجز من البعض عن تجاوز سيكولوجية الدفاع بروح من الحب والتسامح الأصيل.
3 ـ كان هناك إخفاق في تفسير الإنجيل بعبارات حياتية. فالأصولية والمحافظة والمجاهرة قتلت الكتاب المقدس وعقيدة الكنيسة، وذلك بتحويل كل شئ إلى مجرد صياغات للحفظ بدل أن تعاش وتختبر.
4 ـ تسرب النزعة القومية والتيارات الأثنية إلى الكنيسة.

خاتمة:
الإنجيل يُقبل ويتجلى ويتجسد في ظروف جديدة، ويُعيد خلقة أى حضارة ـ في الروح القدس ـ معطيًا إياها محتوى كياني جديد. الحضارة التي يخلقها الإنجيل لا تتطابق مع مكان معين وشعب معين. فالإنجيل لا يصبح في دائرة مغلقة. فإنه مفتوح دائمًا نحو المجموعات البشرية. لا يطلب الإنجيل تغييرًا في الشكل الخارجي ولا ينادي بالتشبه بشكل معين لكن يطلب أن يكون الفكر واحدًا والنفس واحدة. فكل شعب يحتفظ بهويته وبخصوصياته يمكن له أن يعايش "الثوابت الإنجيلية. التجديد المستمر هما بمثابة قوة الإنجيل المسيحي. لا يحق لأي حضارة أن تأسره، ولا لأي مجموعة منغلقة على ذاتها تهيمن عليه.
على الجانب الآخر إننا ننتقل بسرعة فائقة نحو عالم تعددي من الوجهة الدينية، الأمر الذي يجب علينا كمسيحيين أن نقلع عن المناهج العدائية في التبشير، فالكرازة بالإنجيل لا يجوز أن تكون بإكراه من أى نوع. إن الكنيسة كجسد المسيح هى الطريق الوحيد المضمون والأكيد الذي يقود إلى الله. ونحن المسيحيين لا نستطيع أن نقترح سبيلاً أفضل إلى الخلاص غير الذي نعرفه. لذا نتمسك بهذا الإيمان.
[1] وول ديورانث: قصة الحضارة ـ الجزء الأول.[2] البروفيسور قسطنطين سكوتيرس، يسوع المسيح والحضارة، حوليات 4ـ5 ـ معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي جامعة التلمند 2003، ص226.[3] انظر ن. براتسيوكوس، أنثربولوجية العهد القديم، جزء 1: الإنسان مخلوق إلهي، أثينا 1967 (باللغة اليونانية).[4] انظر قسطنطين سكوتيرس، المرجع السابق، ص231.[5] A. Gianoul£tou, Pouc£n'gka O DhmiourgÒj. Sumsol» eij t»n šreuna tîn per… qeoà kai anqrèpou afrikanikîn doxasiîn, AqÁnai 475.[6] انظر يوحنا زيزيولاس، الكنيسة الأرثوذكسية في الألفية الثالثة، حوليات 2ـ3، معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي جامعة التلمند 2001، ص294.[7] الدفاع الأول 3:13: BEPES 3, 207[8] المتفرقات 5:1 PG 8, 728A, BEPES 7,247[9] تاريخ الكنيسة الجزء الأول: 59,227 BEPES 59و227[10] غريغوريوس اللاهوتي: BEPES 59, 227 PG 36, 45.[11] المرجع السابق، ص234ـ235.[12] المرجع السابق، ص291ـ293.