المسيح وإنحيازة للفقراء والمقهورين والمهمشين د। جورج عوض رغم أن تعاليم المسيح لها صبغة شخصية تدعو الإنسان الفرد بأن يعى ويدرك مسئوليته تجاه "الله" إلا أنها لا تتجاهل الحياة الاجتماعية ومشاكلها. فكما اهتم المسيح بخلاص النفس الإنسانية، اهتم أيضاً بالجسد الإنسانى، وكما اهتم بخلاص الفرد، اهتم أيضاً بالمشاكل الاجتماعية. وفى الحقيقة أن المسيح لم يكن مدركًا فقط لمشاكل عصره الاجتماعية لكنه أيضًا أخذ موقفاً واضحاً تجاهها. فالمسيح لم ينشغل بتفسير وجود الشر بل جاهد وصارع ضد قوات الشر، فكان نشاطه فدائى تحررى، جهاد ضد العوز و الاحتياج الإنسانى. أن تعاليم المسيح عن ملكوت الله وأيضاً عن وصية المحبة بلا حدود نحو الله والقريب لها نتائج اجتماعية عظيمة ولا يوجد فصل بين الجانب الفردى والاجتماعى للسلوك الأخلاقى. فإن بناء ملكوت الله ومحبة الله والقريب لا يتطلبان فقط تجديد للإنسان ولكن تجديد للمجتمع أيضاً. المشكلة الاجتماعية الواضحة والتى كانت فى زمن المسيح هى الطبقية، فالناس انقسموا إلى قسمين: الأول: المستغِلين. والثانى : المستغَلين ـ أو إلى أغنياء وفقراء ، فاليهود فى القرن الأول كانوا مضغوطين ومقهورين من الاستغلال الوحشى لهم من الرومان، ومن جهة أخرى من عائلات الرؤساء الدينيين الذين اغلبهم كانوا يتعاونون مع المحتلين الروما إن اهتمام المسيح الكبير للفقراء قد عبّر عنه منذ بداية نشاطه العلنى فقد تكلم فى الناصرة معلنا نبوة إشعياء (ص61) و مبرهناً أن رسالته هى رسالة تحررية للفقراء والمتألمين. "روح الرب على لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين فى الحرية" (لو18:4). نفس الكلام قد قاله تقريباً لتلاميذ يوحنا المعمدان عندما سألوه عن هل هو المسيا؟ "اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العمى يبصرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون والمساكين يبشرون" (مت4:11ـ5). لقد التفت المسيح ووضع كل اهتمامه وحنانه نحو الإنسان المتألم. لقد ركز متى الإنجيلى على نشاط المسيح المحب للبشر فى منطقة الجليل " وكان يسوع يطوف فى كل الجليل يعلم فى مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب فذاع خبره فى جميع سورية فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين شفاهم" (مت23:3ـ24). هنا نجد علاقة متينة بين ملكوت الله ومعجزات المسيح التى أتمها، أى أن معجزات المسيح تمثل برهان على أن عصر الفداء (التحرر) قد بدأ فعلاً. وهذا يعنى دخول المستقبل الاسخاتولوجى فى الحاضر. إن المعجزات وخصوصاً التى تخص إشباع الجياع وشفاء المرضى يظهرون مدى اهتمام المسيح ليس فقط بالنفس ولكن بالإنسان كوحدة واحدة جسد ونفس. إن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين نجده أيضاً واضحاً فى التطويبات "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" (لو20:6ـ21). لكن المسيح لا يكتفى بمساندة الفقراء والمجربين فى هذه الحياة بل هو يطابق نفسه بهم، وهذا يظهر بوضوح فى إصحاح 25 من إنجيل متى "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. لأنى جعت فأطعمتمونى عطشت فسيقيتمونى كنت غريباً فآويتمونى .. يا رب متى رأيناك جائعاً .. ومتى رأيناك غريباً .. الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى الأصاغر فبى قد فعلتم.." (مت23:25ـ45). هنا يطابق المسيح نفسه بالفقراء، بالإنسان المهمش، بالأصغر، بالضعيف، لقد رفع من شأن المرأة وأظهر حباً عظيماً نحو الأطفال، على عكس المجتمع الرومانى واليهودى الذى همش الأطفال لقد أخذ المسيح موقف إيجابى مؤثر تجاههم (انظر مر36:9ـ37 ، 13:10ـ16 ، مت3:18 ،19 ، لو15:18ـ17). لقد برّر المسيح هؤلاء الذين أظهروا اهتمام عملى بالفقراء والمهمشين، بينما استنكر وأدان هؤلاء الذين لا يبالون بهم حتى لو كانوا كهنة ولاويين وذلك فى مثل السامرى الصالح فالمعيار الذى سوف يدانون به البشر هو موقفهم تجاه الفقير والمتألم وهكذا الذى استضافه: "وقال أيضاً للذى دعاه إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا أخوتك ولا أقربائك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع والعرج والعمى" (لو12:14ـ13). نفس الشىء والمعنى توبيخ المسيح للشاب الغنى "يعوزك شئ واحد. اذهب بع كل ما لك وأعط للفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعالى اتبعنى حاملاً الصليب" (مر21:10) أيضاً فى مثل الغنى ولعازر يعبر عن موقف المسيح تجاه الفقراء والمتألمين بطريقة واضحة (لو19:16ـ26). لقد كشف المثل عن الهوة الكبيرة بين الغنى والفقير بين الحياة المتلذذة فى القصور وبين الحالة المحزنة الدرامية التى كانت للعازر. ونستطيع أن نقول بلغة اليوم للشمال الغنى والجنوب الفقير لقد عبر المثل عن الظلم الاجتماعى والذى يهدد دائماً الحياة الإنسانية. والصورة التى وصفها المسيح عن التغير الجذرى الذى حدث بعد الموت لكل من لعازر والغنى، لعازر يعيش حياة سعيدة والغنى يكتوى من النار بطريقة يصعب التعبير عنها، تعبر عن موقف المسيح الاستنكارى للظلم الاجتماعى منحازاً إلى جانب الفقراء. مرة أخرى يشدد المثل على أن المعيار الذى يدين به الله الإنسان هو موقفه تجاه المتألمين فى هذه الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق