الاثنين، 21 مارس 2011



كرامة الإنسان – رؤيه مسيحية

د جورج عوض ابراهيم

نستعرض الآن مكانة الإنسان في المسيحية إيمانًا مِنا بكرامة الإنسان التي أهدرت في مجتمعاتنا حيث أصبح الإنسان مهمشًا وأداة في النظام الرأسمالي العالمي الجديد الذي حوَّل المجتمع الإنساني إلى مجتمع إستهلاكي يخدم مصالحه.
1 ـ إن الإيمان بأن الله خلق الإنسان "بحسب صورة الله ومثاله" (تك27:1) هو حجر الزاوية للأنثربولوجية المسيحية.
وفوق هذا
الأساس ينبني أي تعليم سليم عن الإنسان. ويشدد العهد الجديد أيضًا على أن الإنسان هو مخلوق إلهي، فالمسيح نفسه يقول لليهود الفريسيين " أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى" (مت4:19، انظر أع28:17ـ29)، وأن الإنسان خُلق بحسب صورة الله (كو10:3) "وبحسب مثاله" (يع9:3). الله يُعلن ليس كمجرد "كائن أعلى" لكن كـ "إله محبة". واحد مثلث الأقانيم، أي شركة محبة بين الأقانيم الثلاثة في جوهر واحد. والخلق بحسب "المثال" أي مثال الله أُعطى للإنسان كإمكانية وليس كأمر تام قد اكتمل، إذ أن الاكتمال يتحقق بقوة الروح القدس أثناء مسيرة الإنسان في طريق الشركة والمحبة بين الله وبين إخوته في الإنسانية. هكذا كل البشر بغض النظر عن الانتماء القومي، واللون، واللغة، والشكل هم محاطون بكرامة إلهية متساوية. وبينما الفكر الغربي شدّد تشديدًا كبيرًا على تأليه العقل، نجد أن الشرق المسيحي شدّد بالأكثر على عنصر الحرية والمحبة واضعًا نموذج شركة أقانيم الثالوث منبعًا للحرية والمحبة.
2 ـ أيضًا تنادى المسيحية بأن الله ليس خالقًا فقط بل هو بالأحرى أب لكل البشر
وهذا الرأي يُشدّد عليه مرارًا في الكتاب المقدس وخاصة
في العهد الجديد (على سبيل المثال مت9:6، رو7:1). فجميع البشر هم أولاد الله وبالتالي فهم أخوة. أن اشتراك البشر جميعًا في حياة أساسها نفخة الله قد أكد عليه بولس الرسول في آريوس باغوس في أثينا " الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادى... وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض وحتم بالأوقات المعنية وبحدود مسكنهم" (أع24:17ـ26). هكذا تظل البشرية كلها وحدة عظيمة بلا تفتيت مركزها الله الثالوث الحيّ: " إله وأب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم" (أف6:4). وهذا ما أكده قداسة البابا شنودة الثالث في تأملاته لصلاة "أبانا" قائلاً: [ إن كلمة "أبانا" هنا تضيع منها الذاتية والفردية.. إننى أكلم "أبانا" كعضو في أسرة كبيرة، كجزء من الأسرة البشرية كلها، من الكنيسة الجامعة الرسولية، إنك لست أبًا لى وحدى بل أب العالم كله.. أب الناس الذين يعرفونك والذين لا يعرفونك.. إنك أب لى وللعاجزين والمنطرحين الذين لا يذكرهم أحد.. إنك أب لى في الكنيسة، وأب لنا كلنا وأطلب منك أن ترعى الجميع ليتقدس اسمك. هذا هو شعورنا حينما نصلى، إننا جزء لا يتجزأ من الكنيسة كلها... في صلواتنا نذكر العالم كله] .
3 ـ كذلك هدف الوجود البشرى والذي وضعه الله يربط البشر في عائلة واحدة:
إن هدف وجود البشر هو تفعيل إمكانياتهم الإلهية بنعمة الله للتحرك نحو تحقيق التشبه بالله. أى أن نرتفع من مجرد الوجود البيولوجى إلى شركة أشخاص، إلى انسجام وتوافق مع كل المخلوقات وكل الخليقة وذلك بالمحبة التي تنبع من الثالوث القدوس وتنسكب في قلوبنا.
4 ـ أيضًا يوجد عنصر آخر أساسى تشترك فيه كل البشرية وهو سقوط الإنسان
فالإنسان بدلاً من أن يتجه ناحية الله ليشترك في شركة محبة الأقانيم الإلهية لكى يحقق الهدف من وجوده وهو التشبه بالله، التصق بذاته الفردية ورفض محبة الله وطلب أن يمضى على أساس معاييره الخاصة وغواية "الشيطان" بأن يصير كالله عن طريق مخالفة وصايا الله (انظر تك5:3).
ويشرح القدس أثناسيوس الرسولى قصة سقوط الإنسان بأسلوب رائع مبتدئًا بالخلق أولاً، فيقول
[الله صالح بل هو بالأحرى مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بأى شئ وهو لا يحسد أحدًا حتى على الوجود، ولذلك خلق كل الأشياء من العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا، وبنوع خاص تحنن على جنس البشر. ولأنه رأى عدم قدرة الإنسان أن يبقى دائمًا على الحالة التي خُلق فيها، أعطاه نعمة إضافية، فلم يكتف بخلق البشر مثل باقى الكائنات غير العاقلة على الأرض، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركة في قوة كلمته حتى يستطيعوا بطريقة ما، ولهم بعض من ظل (الكلمة) وقد صاروا عقلاء، أن يبقوا في سعادة ويحيوا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس] . ويستمر القديس أثناسيوس في الكلام عن الوصية التي أعطيت للإنسان قائلاً: [ولكن لعلمه أيضًا إن إرادة البشر يمكن أن تميل إلى أحد الاتجاهين (الخير والشر) سبق فأمن النعمة المعطاة لهم بوصية ومكان. فأدخلهم في فردوسه وأعطاهم وصية حتى إذا حفظوا النعمة واستمروا صالحين عاشوا في الفردوس بغير حزن ولا ألم ولا هم، بالإضافة إلى الوعد بالخلود في السماء. أما إذا تعدوا الوصية وارتدوا (عن الخير) وصاروا أشرارًا فليعلموا أنهم سيجلبون الموت على أنفسهم حسب طبيعتهم، ولن يحيوا بعد في الفردوس، بل يموتون خارجًا عنه ويبقون إلى الأبد في الفساد والموت] .
واضح أن سقوط الإنسان له علاقة "بحريته"، لقد كان حرًا في أن يرفض المحبة الإلهية، فقد رفضها بالفعل ليرتبط بمحبته لذاته. وعلى الرغم من تغربه إلا أنه مازال يحتفظ بهويته وميراث الأصل الإلهى وأيضًا الاشتياق إلى الفردوس المفقود.
كذلك يحدّثنا القديس يوحنا ذهبى الفم عن مكانة الإنسان فى نور قيامة المسيح، مبرهنًا على أن البشر متساوون فى الكرامة أمام الله. فالمائدة السماوية (الإفخارستيا) هى مُقدمَّة للجميع بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية ومستواهم المادي والمناصب التي يتقلدونها، قائلاً:
[توجد مائدة واحدة مشتركة للجميع، للغني وللفقير، ولا يستطيع الغني أن يضيف شيئًا لهذه المائدة، كما أن الفقير لا يُحرم بسبب فقره من الشركة فى هذه المائدة الإلهية، لأن النعمة الإلهية تُقدم هنا للكل. ولماذا يبدو لك أنه أمر غريب أن تُقدم مائدة واحدة للغني وللفقير معًا، فإن الملك نفسه الذي يلبس الثياب الملوكية ويضع التاج على رأسه، والذي له سلطة عظيمة على كل الأرض، يشارك الفقير، الذي يطلب إحسانًا، نفس المائدة] ويستمر ذهبى الفم موضحًا لنا مصدر هذه المساواة وعدم التفرقة العنصرية، قائلاً: [وهذه هي العطايا التي يقدمها لنا الرب. إنه لا يقسّم المجتمع إلى طبقات وفقًا للمكانة الاجتماعية، لكنه يعامل كل واحد بحسب استعداده الشخصى وإيمانه] .
لقد أوضح القديس يوحنا ذهبى الفم أن البشر أمام مائدة الله متساوون فى الكرامة وهى تتحقق فعلاً أثناء التناول من الأسرار المقدسة، لكن التمتع بهذه المساواة وهذه الكرامة مرهون بنوال الإنسان نعمة الولادة الجديدة لأنه يقول بوضوح: [مرات كثيرة يأتي إلى الكنيسة الغني والفقير وعندما يأتي وقت تقديس الأسرار المقدسة، يضطر الغني لأن يخرج خارج الكنيسة، لأنه مازال في عداد الموعوظين، بينما يظل الفقير داخل الكنيسة (أى الذى نال المعمودية)، وهذا لا يسبب غضبًا للغَنى، لأنه يعرف أنه مازال بعيدًا عن التقدم الأسرار الإلهية. آه كم عظيمة هي نعمة الله! إن نعمة الله تجعل كل الذين هم داخل الكنيسة ليسوا فقط متساوين، بل مرات كثيرة يتفوق الفقير على الغني في التقوى، لأن الغني الذى لا يعيش بالتقوى لا ينتفع إطلاقًا بما يملكه، كما أن الفقر لا يسبب ضررًا للمؤمن الذي يقف بتقوى وخوف أمام المذبح المقدس] .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق