الحرّية والمسئولية د । جورج عوض ابراهيم
التربية المعاصرة تعطى تأكيدًا على عنصرين هما: (أ) حرية الاختيارات، (ب) المسئولية.واليوم، تحت تأثير الانعكاسات النفسيّة لمجتمع يشكّك في القيّم التقليدية، حيث يفحص ويدين ويرفض كل ما كان مقبولاً بالأمس، تُعطى أهمية عظمى لقيّم الحرية وصدق أعمال وأفعال الإنسان النبيلة. الحرية والمسئولية يمثلان شرطًا لتكوين وعىّ صحى ناضج يعمل كمؤشر للاختيارات الأخلاقية للفرد.هذا يعنى أن التربية ليست مجرد تخويل أو غرز قيّم تقليدية لمجتمع معين، لكن هى محصلة قيّم وأفكار قد تكون مضادة لبعض القيَّم والرغبات التى يتبناها أعضاء كثيرون لمجتمع معين. والعظة على الجبل تمثل تيارًا مثيرًا مضادًا لممارسات اجتماعية نمت في عصر المسيح. والمسيح في إطار هذه العظة ينادى بتعاليم تشكِّل تغيير جذرى للإنسان في المجتمع .لقد نادى المسيح بتعاليم لتكون بمثابة مناخ يستطيع التلاميذ في إطاره أن يتعلّموا أن يكونوا أحرارًا، وأن يعملوا من أنفسهم. أيضًا يتعلّمون فى هذا الإطار ممارسة النقد الذاتى، أو أن يستثمروا مواهبهم في مجال الحياة العامة وفي مجال الحياة الشخصية.أ ـ الحرّية والخوفعندما يتحدث المسيح إلى الشعب نجده يظهر بكثرة مدى سلبية كلمة "الخوف" (راجع لو21:9، 5:8، مر36:5، رو4:13)، على الجانب الآخر يغرز فى نفوس الشعب الثقة والإيمان: " ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم" (مت28:10). فالخوف يظهر كنتيجة لوجود الإنسان في الخطية إذ هو ثمرة عبودية نفسيّة وجسدية. وهو يؤثر على تصرفات الإنسان، ولقد وضّح المسيح له المجد نتائج الخوف من خلال الأمثلة التى كان يتحدث بها مع الشعب، فنجد فى مثل الوزنات ـ على سبيل المثال ـ يوضّح أن الخوف كان يسيطر على العبد الثالث الذي قال " فخُفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض" (مت14:25 ـ30).وعلى الجانب الآخر نجد أن المسيح في أحاديثه لم يعلّم بأن الإنسان سوف يتخلّص نهائيًا من الخوف بل أكد على أن البشر يجب أن يخافوا وهذا واقع بشرى: " بل أريكم ممن تخافون. خافوا من الذي بعدما يقتل له سلطان أن يلقى في جهنم. نعم أقول لكم من هذا خافوا" (لو5:12).والكتاب المقدس يوصينا أن نكون رجالاً فى الإيمان، والرجولة لا تعرف الخوف. وجدير بنا أن نتكلم عن الطفولة إذ دائمًا ما ترتبط بالخوف. كما أن مصطلح "طفل" فى الكتاب المقدس له مفهوم مزدوج:المفهوم الأول: يتضمن ملمحًا خلاصيًا، فيشرح لنا القديس كليمندس الأسكندرى كيف أن السيد المسيح أطلق علينا لقب " صغار" عندما نزع عنا ثياب الشرّ والخبث وألبسنا الحياة الأبدية فى المسيح، حتى نصبح خليقة جديدة مقدسين فى الولادة الجديدة .المفهوم الثانى: يرتبط بالإنسان العتيق، إنسان الخطية " هكذا نحن لما كنا قاصرين كُنا مستعبدين تحت أركان هذا العالم" (غل3:4). والقديس كليمندس الأسكندرى يوضّح معنى كوننا " كنا قاصرين " بقوله إننا كنا: " أطفال أولئك الذين هم خاضعين للناموس" .هكذا يربط كلمة "طفل" بالخوف عندما يقصد الإنسان الذى هو مستعبد للخطية والناموس بينما كلمة "رجل" هى بالنسبة له هو الإنسان الذى نال البنوة وصار ناضجًا فى المسيح. ومن هذا المنطلق فإن الطفولة فى إطار الخلاص تأخذ محتوى جديدًا فى علاقتها بالناموس: "الطفولة التى فى المسيح هى نضج بالمقارنة بتلك التى فى الناموس" .إن توظيف قدرات الإنسان بهدف التغيير الذي يتخطى الواقع الذي يحرم الإنسان من حقوقه يتم بدافع من الحرية الحقيقية ومسئولية الإنسان نفسه.هذا العمل يمكن أن يقود أيضًا إلى التشكيك فى المعتقدات والنُظم البالية التي تتحكم في تصرفات الإنسان. على سبيل المثال، في (لو2:15) " تذمر الفريسيون والكتبة قائلين هذا يقبل خطاة ويأكل معهم"، هنا نجد أن اليهود أدانوا المسيح لعدم توافقه مع تقاليد المجتمع العبرى. وقد صار تلاميذه على نهجه هذا، لذا نجد أن اليهود قد أدانوهم هم أيضًا قائلين: " لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ. فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا" (مت2:15). وقد سأل الفريسيون المسيح: " لماذا لا يسلك تلاميذك حسب تقليد الشيوخ بل يأكلون خبزًا بأيدٍ غير مغسولة" (مر5:7). لكن أى تقليد يذكرونه؟ إن إجابة يسوع كانت مفحمة " لأنكم تركتم وصية الله وتتمسكون بتقليد الناس. غسل الأباريق والكؤوس وأمورًا أخرى كثيرة مثل هذه تفعلون" (مر8:7). وهكذا نجد أنه عندما نكون أحرارًا "فى المسيح" فإننا لن نكون خائفين إذا تجرأنا على مخالفة تقاليد عالمية هى من وضع البشر.
ب ـ الحرّية كشهادة حياةلقد تصرف المسيح بحرية، إذ هو الرب، الإله الخالق والمُشرِّع، لهذا نجد حديثه عن الناموس كان لا لكى ينقضه بل ليكمّله، فقد جاء من أجل خلاص الإنسان، فكل ما عمل وعلّم به قائم على أساس على اهتمامه بشخص الإنسان واحتضانه الدائم لمبدأ المحبة. هكذا اختار مواجهة الموت المحقق في أورشليم بالرغم من تحذير التلاميذ وخوفهم الشديد عليه. وحريته هذه وصلت إلى قمة العظمة الإلهية عندما منح الغفران لصالبيه.انشغل المسيح بالكشف عن الجذور الأصيلة للتقليد محاولاً أن يفصل نواة التعليم الأول عن التعليم التقليدى المزيّف الذي شوّه المحتوى الأصيل للتعليم. لم يرفض المسيح السلطة المدنية في المجتمع لكن إرادة الله ـ بالنسبة له ـ تسبق كل القيّم البشرية: " حينئذٍ جاء إلى يسوع كتبة وفريسيون من أورشليم قائلين لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ. فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا. فأجاب وقال لهم وأنتم أيضًا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم. فإن الله أوصى قائلاً أكرم أباك وأمك. ومَن يشتم أبًا أو أمًا فليمت موتًا. وأما أنتم فتقولون مَن قال لأبيه أو أمه قربان هو الذي تنتفع به منى، فلا يُكرِم أباه أو أمه. فقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم. يا مراؤون حسنًا تنبأ عنكم إشعياء قائلاً يقترب إليَّ هذا الشعب بفمه ويكرمنى بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عنى بعيدًا، وباطلاً يعبدوننى وهم يعلمون تعاليم هى وصايا الناس" (مت1:15ـ9).
هكذا لم يُبطل المسيح الناموس، لكن بالحرى أكمله وحارب التفسيرات الخاطئة للناموس موضحًا المفهوم العميق بهدف تعميق هذا المفهوم فى نفوس مستمعيه. لقد علّم بسلطان لكن أعلن ـ فى نفس الوقت ـ احترامه واهتمامه بحرية كل شخص وخلاصه. لقد نادى العهد القديم بالحرية والاختيار " أُشهد عليكم اليوم السماء والأرض. قد جعلت قدامك الحياة والموت. البركة واللعنة. فاختر الحياة لكى تحيا أنت ونسلك" (تث19:30).إذن لقد أعطى المسيح أهمية جوهرية لهذه الحرية، والتي عبَّر عنها في مثل الابن الضال وموقف أخيه الأكبر. ولم يحاول أن يجبر الغنى على أن يتبعه (مت22:19). وترك الحرية حتى للاثنى عشر تلميذًا فى أن يمضوا: " فقال يسوع للاثنى عشر ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا" (يو67:6)، ولم يجبر الجموع التى أشبعها على الجبل على أن تمضى وراءه بل تركها. وفى موضع آخر نجده يقول: " ثم قال لهم مَن له أذنان للسمع فليسمع " (مر9:4). لقد كان معلّمًا بالحق حتى وإن تعارض هذا الحق مع كثير من رؤساء اليهود فى عصر5، ممن مارسوا دورًا تعليميًا مليئًا بالتملق والنفاق.
ج ـ المسئولية كتعبير لإدراك مفهوم الحريةلم يتردد المسيح في أن يدعو بمبادئ محدّدة عن شروط التلمذة له، مثل: " إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى" (مت24:16). لقد رسم أمامهم مسيرة تضحية وإنكار ذات، مسيرة يمكن أن تقودهم إلى الموت، مسيرة نجد قمتها في محبة الأعداء. وهذا هو مفهوم الحرية فى المسيح والمقترنة بالمسئولية.لقد كان هدف المسيح هو تغير قلوب المؤمنين وليس محاربة الناموس ولا التقليد. هكذا أجاب على الناموسى الذي كان يجرّبه قائلاً: " يا معلّم أية وصية هى العظمى في الناموس" (مت36:22). بل إنه أقنع ليس فقط هذا الناموسى، بل كل خصومه أيضًا " فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله البتة" (مت46:22).لقد حرّر المسيح الإنسان من كل أنواع الأوهام البشرية، والقيم الخاطئة، والعبادة الشكلية والغنى الباطل والسعادة البشرية الزائفة. هذا التحرر يتضّح فى عنصرين أساسيين هما:* إنكار الذات * حمل الصليبفعلى التلاميذ أن يخرجوا القذى من عيونهم أولاً (مت5:7) وسوف يتحررون من القلق على ذواتهم، وعلى غذائهم وملابسهم، ومن الانتقام والحقد ضد الأعداء. لقد طالبهم بأن يروا العدو كأخ لهم، بل ويحبوه أيضًا. فكان ينبغى على التلاميذ وبدافع المسئولية أن يلاحظوا بتمييز ووعى تصرفات البشر، ولهذا فقد دعاهم أن يلاحظوا الاختلاف، على سبيل المثال، بين ما يقوله الفريسيون وما يفعلونه، وبين تقدمة الأرملة صاحبة الفلسين وتقدمة الغنى، وبين صلاة الفريسى وصلاة العشار. وفضّل لهم أن يعرفوا فقط اعلان الحق " وتعرفون الحق والحق يحرركم"(يو32:8)، وأن يؤمنوا بابن الله الوحيد الذي يستطيع أن يحرّر الإنسان " فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو36:8).لقد علَّم المسيح بأن الأفضلية في اختيارات الإنسان هى تحقيق ملكوت الله: " اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه" (مت33:6). وكل الأشياء الأخرى التي تقع في مجال الضرورات المعيشية سوف تتوفر بواسطة عناية الله: " اسألوا تُعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم " (مت7:7).لقد أراد المسيح تكثيف عمله التربوى على فريق صغير من التلاميذ. لقد حرص على أن يفتح عيونهم ويقودهم إلى سر الآلام البشرية. لقد كان تعليم المسيح مختلف عن تعلّيم الرابونيين في عصره (لو58:9، مر18:1). لقد كانت دعوته فريدة كما فهمها بولس الرسول وعبّر عنها قائلاً: " صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء. صرت للكل كل شئ لأخلّص على كل حال قومًا" (1كو22:9).وعلى عكس الرابونيين، وجّه المسيح دعوة شخصية للتلاميذ (مر17:1، 14:2) . فلقد علّم المسيح تلاميذه بأن الطريق صعب، هو طريق "الألم" (مت17:1ـ30، لو12:21، 23:22)، لذا تركزت تعاليمه التربوية في الاستعداد لمواجهة تيار الشر والضلال والظلمة.
التربية المعاصرة تعطى تأكيدًا على عنصرين هما: (أ) حرية الاختيارات، (ب) المسئولية.واليوم، تحت تأثير الانعكاسات النفسيّة لمجتمع يشكّك في القيّم التقليدية، حيث يفحص ويدين ويرفض كل ما كان مقبولاً بالأمس، تُعطى أهمية عظمى لقيّم الحرية وصدق أعمال وأفعال الإنسان النبيلة. الحرية والمسئولية يمثلان شرطًا لتكوين وعىّ صحى ناضج يعمل كمؤشر للاختيارات الأخلاقية للفرد.هذا يعنى أن التربية ليست مجرد تخويل أو غرز قيّم تقليدية لمجتمع معين، لكن هى محصلة قيّم وأفكار قد تكون مضادة لبعض القيَّم والرغبات التى يتبناها أعضاء كثيرون لمجتمع معين. والعظة على الجبل تمثل تيارًا مثيرًا مضادًا لممارسات اجتماعية نمت في عصر المسيح. والمسيح في إطار هذه العظة ينادى بتعاليم تشكِّل تغيير جذرى للإنسان في المجتمع .لقد نادى المسيح بتعاليم لتكون بمثابة مناخ يستطيع التلاميذ في إطاره أن يتعلّموا أن يكونوا أحرارًا، وأن يعملوا من أنفسهم. أيضًا يتعلّمون فى هذا الإطار ممارسة النقد الذاتى، أو أن يستثمروا مواهبهم في مجال الحياة العامة وفي مجال الحياة الشخصية.أ ـ الحرّية والخوفعندما يتحدث المسيح إلى الشعب نجده يظهر بكثرة مدى سلبية كلمة "الخوف" (راجع لو21:9، 5:8، مر36:5، رو4:13)، على الجانب الآخر يغرز فى نفوس الشعب الثقة والإيمان: " ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم" (مت28:10). فالخوف يظهر كنتيجة لوجود الإنسان في الخطية إذ هو ثمرة عبودية نفسيّة وجسدية. وهو يؤثر على تصرفات الإنسان، ولقد وضّح المسيح له المجد نتائج الخوف من خلال الأمثلة التى كان يتحدث بها مع الشعب، فنجد فى مثل الوزنات ـ على سبيل المثال ـ يوضّح أن الخوف كان يسيطر على العبد الثالث الذي قال " فخُفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض" (مت14:25 ـ30).وعلى الجانب الآخر نجد أن المسيح في أحاديثه لم يعلّم بأن الإنسان سوف يتخلّص نهائيًا من الخوف بل أكد على أن البشر يجب أن يخافوا وهذا واقع بشرى: " بل أريكم ممن تخافون. خافوا من الذي بعدما يقتل له سلطان أن يلقى في جهنم. نعم أقول لكم من هذا خافوا" (لو5:12).والكتاب المقدس يوصينا أن نكون رجالاً فى الإيمان، والرجولة لا تعرف الخوف. وجدير بنا أن نتكلم عن الطفولة إذ دائمًا ما ترتبط بالخوف. كما أن مصطلح "طفل" فى الكتاب المقدس له مفهوم مزدوج:المفهوم الأول: يتضمن ملمحًا خلاصيًا، فيشرح لنا القديس كليمندس الأسكندرى كيف أن السيد المسيح أطلق علينا لقب " صغار" عندما نزع عنا ثياب الشرّ والخبث وألبسنا الحياة الأبدية فى المسيح، حتى نصبح خليقة جديدة مقدسين فى الولادة الجديدة .المفهوم الثانى: يرتبط بالإنسان العتيق، إنسان الخطية " هكذا نحن لما كنا قاصرين كُنا مستعبدين تحت أركان هذا العالم" (غل3:4). والقديس كليمندس الأسكندرى يوضّح معنى كوننا " كنا قاصرين " بقوله إننا كنا: " أطفال أولئك الذين هم خاضعين للناموس" .هكذا يربط كلمة "طفل" بالخوف عندما يقصد الإنسان الذى هو مستعبد للخطية والناموس بينما كلمة "رجل" هى بالنسبة له هو الإنسان الذى نال البنوة وصار ناضجًا فى المسيح. ومن هذا المنطلق فإن الطفولة فى إطار الخلاص تأخذ محتوى جديدًا فى علاقتها بالناموس: "الطفولة التى فى المسيح هى نضج بالمقارنة بتلك التى فى الناموس" .إن توظيف قدرات الإنسان بهدف التغيير الذي يتخطى الواقع الذي يحرم الإنسان من حقوقه يتم بدافع من الحرية الحقيقية ومسئولية الإنسان نفسه.هذا العمل يمكن أن يقود أيضًا إلى التشكيك فى المعتقدات والنُظم البالية التي تتحكم في تصرفات الإنسان. على سبيل المثال، في (لو2:15) " تذمر الفريسيون والكتبة قائلين هذا يقبل خطاة ويأكل معهم"، هنا نجد أن اليهود أدانوا المسيح لعدم توافقه مع تقاليد المجتمع العبرى. وقد صار تلاميذه على نهجه هذا، لذا نجد أن اليهود قد أدانوهم هم أيضًا قائلين: " لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ. فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا" (مت2:15). وقد سأل الفريسيون المسيح: " لماذا لا يسلك تلاميذك حسب تقليد الشيوخ بل يأكلون خبزًا بأيدٍ غير مغسولة" (مر5:7). لكن أى تقليد يذكرونه؟ إن إجابة يسوع كانت مفحمة " لأنكم تركتم وصية الله وتتمسكون بتقليد الناس. غسل الأباريق والكؤوس وأمورًا أخرى كثيرة مثل هذه تفعلون" (مر8:7). وهكذا نجد أنه عندما نكون أحرارًا "فى المسيح" فإننا لن نكون خائفين إذا تجرأنا على مخالفة تقاليد عالمية هى من وضع البشر.
ب ـ الحرّية كشهادة حياةلقد تصرف المسيح بحرية، إذ هو الرب، الإله الخالق والمُشرِّع، لهذا نجد حديثه عن الناموس كان لا لكى ينقضه بل ليكمّله، فقد جاء من أجل خلاص الإنسان، فكل ما عمل وعلّم به قائم على أساس على اهتمامه بشخص الإنسان واحتضانه الدائم لمبدأ المحبة. هكذا اختار مواجهة الموت المحقق في أورشليم بالرغم من تحذير التلاميذ وخوفهم الشديد عليه. وحريته هذه وصلت إلى قمة العظمة الإلهية عندما منح الغفران لصالبيه.انشغل المسيح بالكشف عن الجذور الأصيلة للتقليد محاولاً أن يفصل نواة التعليم الأول عن التعليم التقليدى المزيّف الذي شوّه المحتوى الأصيل للتعليم. لم يرفض المسيح السلطة المدنية في المجتمع لكن إرادة الله ـ بالنسبة له ـ تسبق كل القيّم البشرية: " حينئذٍ جاء إلى يسوع كتبة وفريسيون من أورشليم قائلين لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ. فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا. فأجاب وقال لهم وأنتم أيضًا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم. فإن الله أوصى قائلاً أكرم أباك وأمك. ومَن يشتم أبًا أو أمًا فليمت موتًا. وأما أنتم فتقولون مَن قال لأبيه أو أمه قربان هو الذي تنتفع به منى، فلا يُكرِم أباه أو أمه. فقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم. يا مراؤون حسنًا تنبأ عنكم إشعياء قائلاً يقترب إليَّ هذا الشعب بفمه ويكرمنى بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عنى بعيدًا، وباطلاً يعبدوننى وهم يعلمون تعاليم هى وصايا الناس" (مت1:15ـ9).
هكذا لم يُبطل المسيح الناموس، لكن بالحرى أكمله وحارب التفسيرات الخاطئة للناموس موضحًا المفهوم العميق بهدف تعميق هذا المفهوم فى نفوس مستمعيه. لقد علّم بسلطان لكن أعلن ـ فى نفس الوقت ـ احترامه واهتمامه بحرية كل شخص وخلاصه. لقد نادى العهد القديم بالحرية والاختيار " أُشهد عليكم اليوم السماء والأرض. قد جعلت قدامك الحياة والموت. البركة واللعنة. فاختر الحياة لكى تحيا أنت ونسلك" (تث19:30).إذن لقد أعطى المسيح أهمية جوهرية لهذه الحرية، والتي عبَّر عنها في مثل الابن الضال وموقف أخيه الأكبر. ولم يحاول أن يجبر الغنى على أن يتبعه (مت22:19). وترك الحرية حتى للاثنى عشر تلميذًا فى أن يمضوا: " فقال يسوع للاثنى عشر ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا" (يو67:6)، ولم يجبر الجموع التى أشبعها على الجبل على أن تمضى وراءه بل تركها. وفى موضع آخر نجده يقول: " ثم قال لهم مَن له أذنان للسمع فليسمع " (مر9:4). لقد كان معلّمًا بالحق حتى وإن تعارض هذا الحق مع كثير من رؤساء اليهود فى عصر5، ممن مارسوا دورًا تعليميًا مليئًا بالتملق والنفاق.
ج ـ المسئولية كتعبير لإدراك مفهوم الحريةلم يتردد المسيح في أن يدعو بمبادئ محدّدة عن شروط التلمذة له، مثل: " إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى" (مت24:16). لقد رسم أمامهم مسيرة تضحية وإنكار ذات، مسيرة يمكن أن تقودهم إلى الموت، مسيرة نجد قمتها في محبة الأعداء. وهذا هو مفهوم الحرية فى المسيح والمقترنة بالمسئولية.لقد كان هدف المسيح هو تغير قلوب المؤمنين وليس محاربة الناموس ولا التقليد. هكذا أجاب على الناموسى الذي كان يجرّبه قائلاً: " يا معلّم أية وصية هى العظمى في الناموس" (مت36:22). بل إنه أقنع ليس فقط هذا الناموسى، بل كل خصومه أيضًا " فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله البتة" (مت46:22).لقد حرّر المسيح الإنسان من كل أنواع الأوهام البشرية، والقيم الخاطئة، والعبادة الشكلية والغنى الباطل والسعادة البشرية الزائفة. هذا التحرر يتضّح فى عنصرين أساسيين هما:* إنكار الذات * حمل الصليبفعلى التلاميذ أن يخرجوا القذى من عيونهم أولاً (مت5:7) وسوف يتحررون من القلق على ذواتهم، وعلى غذائهم وملابسهم، ومن الانتقام والحقد ضد الأعداء. لقد طالبهم بأن يروا العدو كأخ لهم، بل ويحبوه أيضًا. فكان ينبغى على التلاميذ وبدافع المسئولية أن يلاحظوا بتمييز ووعى تصرفات البشر، ولهذا فقد دعاهم أن يلاحظوا الاختلاف، على سبيل المثال، بين ما يقوله الفريسيون وما يفعلونه، وبين تقدمة الأرملة صاحبة الفلسين وتقدمة الغنى، وبين صلاة الفريسى وصلاة العشار. وفضّل لهم أن يعرفوا فقط اعلان الحق " وتعرفون الحق والحق يحرركم"(يو32:8)، وأن يؤمنوا بابن الله الوحيد الذي يستطيع أن يحرّر الإنسان " فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو36:8).لقد علَّم المسيح بأن الأفضلية في اختيارات الإنسان هى تحقيق ملكوت الله: " اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه" (مت33:6). وكل الأشياء الأخرى التي تقع في مجال الضرورات المعيشية سوف تتوفر بواسطة عناية الله: " اسألوا تُعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم " (مت7:7).لقد أراد المسيح تكثيف عمله التربوى على فريق صغير من التلاميذ. لقد حرص على أن يفتح عيونهم ويقودهم إلى سر الآلام البشرية. لقد كان تعليم المسيح مختلف عن تعلّيم الرابونيين في عصره (لو58:9، مر18:1). لقد كانت دعوته فريدة كما فهمها بولس الرسول وعبّر عنها قائلاً: " صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء. صرت للكل كل شئ لأخلّص على كل حال قومًا" (1كو22:9).وعلى عكس الرابونيين، وجّه المسيح دعوة شخصية للتلاميذ (مر17:1، 14:2) . فلقد علّم المسيح تلاميذه بأن الطريق صعب، هو طريق "الألم" (مت17:1ـ30، لو12:21، 23:22)، لذا تركزت تعاليمه التربوية في الاستعداد لمواجهة تيار الشر والضلال والظلمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق