الخميس، 3 مارس 2011


المسيح وثورة تغيير المجتمع :

د। جورج عوض ابراهيمإن ملكوت الله كمجتمع جديد حقيقى، قد بشر به المسيح، يأتى مضاد لكل أشكال الفساد ، فهو لا يمكن أن يتكيف مع الروابط الظالمة العتيقة للمجتمع. وهذا ما كان يعنيه المسيح بكلامه للفريسيين : "ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق. لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمراً جديدة فى زجاج عتيقة. لئلا تنشق الزقاق فالخمر تنصب والزقاق تتلف. بل يجعلون خمراً جديدة فى زقاق جديدة فتحفظ جميعاً" (مت16:9ـ17). واضح من كلام المسيح أنه لا يوجد أى توافق بين ملكوت الله والمجتمع اللاإنسانى. إن مطلب المسيح لتغيير المجتمع نجده واضحاً فى التطويبات : "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون طوباكم أيها الباكون لأنكم ستضحكون، طوباكم إذا أبغضكم الناس وإذا أفرزوكم وعيروكم وأخرجوا اسمكم كشرير من أجل ابن الإنسان. أفرحوا فى ذلك اليوم وتهللوا فهوذا أجركم عظيم فى السماء لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء" (20:6ـ23).لم يرد المسيح بهذا الكلام أن يقول للفقراء احتملوا فقركم هذا وسأعدكم بسعادة فى الحياة الأخرى. النص هنا يمثل فوران شديد ضد الظلم الموجود فى المجتمع. هذا الكلام موجه لكل الناس المقهورين فى كل عصر، المسيح لا يُطوٌب هؤلاء الذين يملكون ناصية الديانة أو الذين لهم مكانة سياسية، لكن الفقراء والحزانى والجوعى والمظلومين لأنهم يجاهدون لأجل إحقاق العدالة.لقد كشف المسيح عن زيف معايير هذا العالم وعن زيف الأنظمة غير الإنسانية. وفى نفس الوقت بشر بأن ملكوت الله لم يُعين للذين فى المرتبة الأولى بحسب معايير هذا العالم ولكن للذين هم آخر الكل، للمقهورين. والتطويبات لا تعنى بدون شك أن الفقر والجوع والألم بحد ذاتهم يمثلون تذاكر لملكوت الله. لكن تعبر عن إدانة واستنكار للمعايير التقيمية لهذا العالم فهى تُبشر بإتيان عالم جديد، عالم ملكوت الله الذى يهدف إلى تغيير الإنسان من روابط الخطية والظلم والقهر. ومن الجدير بالذكر أن طلب تغيير المجتمع له بعد أُخروى (اسخاتولوجى) لأن المسيحيون لا يعيشون فقط لأجل الحاضر، لأجل التاريخ فقط ولكن شاخصون للحياة الأبدية، للمستقبليات الاسخاتولوجية حيث تحرر الإنسان وسعادته تكون كاملة. البعد الاسخاتولوجى لا يضعف الاهتمام بالحاضر والتاريخ، لكن العكس يدعو الإنسان أن يجاهد لكى يُغير الحاضر تحت قيادة النور المستقبلى. الأُخروية لا تلغى التاريخ والعالم بل تعمل على تجليهم وتكميلهم. لأجل ذلك فإن نهاية العالم التى تكلم عنها المسيح (مت1:24ـ45 ، مر1:13ـ31 ، لو5:21ـ37) لا تعنى زوال هذا العالم لكن تجليه. المسيح نفسه تكلم عن الميلاد الثانى (مت28:19)، عن الخلق الجديد والرسول بطرس تكلم عن أزمنة رد كل شئ أى رد مجد الخليقة الأولى : "الذى ينبغى أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شئ التى تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر" وذلك بإتيان المسيح، بحلول ملكوت الله خاصة بنور البعد الاسخاتولوجى. إن تاريخ سقوط الإنسان ينسحب ويترك مكانه لتاريخ الفداء. فى هذا الإطار فإن ملكوت الله يُعطى للعالم والتاريخ معنى، وكمال ووحدة.إن دور ملكوت الله فى بعده الاسخاتولوجى هو دور تجديدى، إعادة خلق للواقع التاريخى، "هو ثورة من فوق" تتطلب خلق عالم جديد، عالم ينقاد بنور ملكوت الله ويتجه دائماً للحياة الفضلى والأكثر الإنسانية.هكذا فإن أخلاق الانسان المنتمى الى ملكوت الله والتى كرز بها المسيح لا تهدف إلى تثبيت ومساندة الأنظمة الفاسدة والغير إنسانية فى المجتمع، إنها أخلاق التغيير।والتغيير سمة من سمات مجتمعنا اليوم ،وهذا التغيير تحقق بثورة شباب التحرير التى اصرت على اسقاط النظام الفاسد العتيق ، والتغيير هنا يعنى التعديل المستمر نحو بلوغ حياة أفضل على المستوى الشخصى وعلى مستويات المؤسسات والأنظمة لأن جمود الأوضاع لفترات طويلة ضد سرعة الحركة والتطور الأمر الذى يسبب عقم فى الفكر والإبداع والخلق والتى هى سمات خلق الإنسان "على صورة الله ومثاله". على الجانب الآخر فإن التغيير المستمر من أجل التطوير للأفضل يمنع إيجاد الإمبراطوريات وتأليه الأفراد ويزيد الأمل والطموح عند الشباب قبل الكبار.لذلك فإن "أخلاق التغيير" أو "أخلاق ملكوت الله" تتطلب من المسيحى أن يجاهد ويعمل لكى يواجه المشاكل الاجتماعية حتى يساهم فى بناء عالم أفضل من الآن فصاعداً، أى داخل التاريخ. هذا الجهاد يجب أن يكون مستمر وغير متوقف. لكن علينا أن نأخذ فى الاعتبار أن حالة الكمال التام للعالم الجديد، عالم ملكوت الله لن يتحقق فى الحاضر، لأن هذه الحالة ليست قضية هذا العالم الحاضر ولكن التحقيق يتم فى الحياة الأبدية وهذا نستقيه من البعد الأُخروى (الاسخاتولوجى) لملكوت الله كما ذكرنا سابقاً. إذن الكمال سيتحقق بعد نهاية هذا العالم، فى الأزلية "وسمعت صوتاً عظيماً من السماء قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهأ لهم. وسيمسح الله كل دمعة لهم والموت لا يكون فى ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فى ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت. وقال الجالس على العرش ها أنا أضع كل شئ جديداً .." (رؤ3:21ـ5).هذا التشديد على تحقيق الكمال فى الأبدية لا يسبب إحباط فى مسيرة الجهاد لأجل الأفضل لأن المسيحى يعلم جيداً أن الإمكانيات والقدرات فى هذا الاتجاه هى غير محدودة، وأن الذى يعمل فينا هو روح الرجاء والتفاؤل ومن جهة أخرى هذا التشديد يجعل المسيحى يتجنب أى تطابق لعالم ملكوت الله مع أى نظام اجتماعى أو اقتصادى أو سياسى أو أى تطلع قومى، كما حدث فى زمن المسيح، إذ أن آفاق ملكوت الله كان ضد الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية فى عدم إحقاقهم للعدل بل كان ضد التطلع القومى لليهود أى فكرة "المسيا السياسى".وعلى هذا الأساس سيظل هناك شد وتوتر بين عالم ملكوت الله (النور) وكل الأنظمة والمؤسسات التى تسعى غلى قهر الإنسان وتحويله إلى "ترس" فى آلة (الظلمة) لتحقيق أغراضها الدنيئة.مما سبق نجد أن أخلاق التغيير لا تخص الحالة الروحية للإنسان ولكن تشمل كل حياة الإنسان بعلاقاتها المتعددة। وإذا كان مجتمع اليوم يحتاج إلى إنسان من نوع جديد فإن أخلاق ملكوت الله تستطيع أن تخلق هذا الإنسان القادر على مواجهة التغييرات والتعامل مع المجهول، إنسان متعدد المهارات والخبرات قادر على التعليم الدائم، يقبل إعادة التدريب والتأهيل عدة مرات فى حياته حتى يمكنه التنقل من عمل إلى آخر. فإنسان ملكوت الله لديه إحساس بالزمن والتحولات التى تجرى بسرعة هائلة من حوله ليمكنه مسايراتها حتى لا تعدو بالنسبة له صدمة. إن أخلاق التغيير أيضاً تمس تغير المجتمع وذلك بالتربية لإعداد هذا الإنسان الجديد، التربية التى تصقل العقل وتنمى القدرات على النقد والإبداع والابتكار، وعلى الفهم والتحليل، بالتربية التى تحرر الذهن من الخرافة وعتاقة التقاليد، وتؤصل القيم وشمولها وتكاملها، بالتربية التى لا تجد صراع بين الإيمان والعلم بل ترى أنه من الإيمان أن نشجع العلم الذى يرفع الإنسان ويرقى بالمجتمع، بالتربية التى تقوم على التعاون مع الآخرين وليس الذوبان فيهم، بالتربية التى تقوم على الاختلاف بدلاً من التسليم بالأفكار والمعلومات السائدة.

هناك تعليق واحد:

  1. أشكرك ... أوافقك تماما وبطلب ان ربنا يغيير الاذهان ويفتح القلوب ويكسر كل كبرياء.

    ردحذف