السقوط والخليقة المادية
د جورج عوض ابراهيم إن الإنسان المخلوق على صورة الله قد شُمل بعطية الحرية، إذ كان في استطاعته أن يتحرك نحو الله، وبدلاً من أن يرى العالم كعطية من الله وكوسيلة شركة معه، رغب أن يحتفظ به لنفسه. لم يراه كعطية من الله بل كهدف في حد ذاته، وصار العالم عدو له. فالعالم البعيد عن الله صار عالماً ملئ بتشوهات، وُضع في الفساد و في الموت، عاد " إلى التراب " (تك19:3). هذه هي حقيقة الإنسان وكل شئ في العالم في حالة انفصالهما عن الله. وكنتيجة للسقوط صار الإنسان مقيداً حول دائرة ذاته المغلقة. توقفت شفافية الخليقة المادية وصارت معتمة ومظلمة، لم تعد هذه الخليقة وسيلة شركة مع الله بل صارت عائق. وكما أن صورة الله في الإنسان لم تُدمر تماماً بسبب الخطية، هكذا جمال الخليقة الأول لم يُفقد نهائياً، لكن تأثر تأثراً بالغاً. فالإنسان الساقط أمكنه أن يؤكد أنه " صورة المجد الأزلي" ونفس الشيء يقال على العالم، إذ بالرغم من أنه موجودًا، تحت ظروف السقوط، فإنه مكتوب " السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه " (مز2:18) ولكن بعد السقوط " تحدث السموات" لا يمكن أن ُيقارن بجمال الخليقة الأول . وإذا كان الكون قد تأثر بنتائج السقوط، فالخلاص الذي قدمه المسيح ـ بمجيئه على الأرض ـ هو أيضاً مقدم للعالم كله. فالفداء قُدم ليس فقط للبشرية، ولكن كل البيئة الطبيعية للإنسان. فالإنسان الساقط، لم يتخلص من العالم مثلما نادى الغنوسيون، لكن كل العالم المادي استُعيد وجُدّد معه. الخلاص في المسيح يعني أن الأشياء المادية حصلت مرة ثانية على قوتها لكي تعمل كأسرار شركة مع الله، وأن الإنسان حصل على وضعه الأول (القديم) كوسيط ورئيس كهنة للخليقة، مالئًا العالم بالمجد الإلهي، مقدماً كل الأشياء الطبيعية في بُعدها الروحي . إن الأهمية العُظمى للخليقة المادية تبدو ببساطة في كل اللحظات الفريدة لحياة المسيح على الأرض : في التأنس: المسيح أخذ ليس فقط نفسًا إنسانية لكن جسدًا ماديًا، وهذا الجسد، كما يقول الآباء صار مصدراً للقداسة. وأيضاً الأب يوحنا الدمشقي يقول: [ أنا لا أعبد المادة ] مجيباً على الذين يعبدون الأيقونات [ لكن أعبد خالق المادة، الذي لأجلي صار مادة وقَبِلَ أن ينزل داخل المادة محققًا بهذه الطريقة خلاصي. لن أتوقف في تكريم المادة لأن خلاصي أتى بواسطة المادة ] . في العماد : المسيح اغتسل في نهر الأردن، أى في عنصر المياه المادي، وهذا الحدث فُسر في التقليد الأرثوذكسي ليس فقط كنموذج لسر العماد، لكن كتطهير وتجديد للخليقة المادية. إن الموعوظ في سر العماد يُعمد وهو خاطئ، وروحياً نجس وذلك داخل الماء النقي، وبهذا التغطيس في الماء، يخرج طاهراً وبلا خطية. نزل في الماء النجس ـ نجس لأنه يتأثر (مع كل الأشياء المادية) من سقوط الإنسان ـ وبنزوله هذا طهّر عنصر الماء وأعطاه قوة لكي يخدم كوسيلة نعمة. وبهذا المفهوم، فإن تقديس المياه بعماد المسيح يعني التغيير الكامل لكل العالم، وموضوع هذا التغيير والتجلي يظهر في كل نصوص الليتورجيا الخاصة بالثيوفانيا " اليوم تقدست طبيعة المياه ... "، " المسيح ظهر في الأردن وقدس المياه "، وهذا البُعد نقصد بُعد تقديس العالم المادي، ظاهر بوضوح في ذوكصولوجية عيد الغطاس : [ حينئذ امتلأ فمنا فرحاً ولساننا تهليلاً. لأن ربنا يسوع المسيح قد اعتمد من يوحنا. بالحقيقة، السماء والأرض مملوءتان من كرامتك. أيها الرب ذو اليد العزيزة والذراع المنقذة. لأن الرب أتى واعتمد من أجل خطايانا نحن أيضًا. وأنقذنا وخلصنا برأفة عظيمة... البحر رأى فهرب. والأردن رجع إلى خلف. مالك أيها البحر لأنك هربت. اثبت لكي تتبارك... افرحي أيتها الجبال والآكام والغياض والأرز من قدام وجه الملك الذي خلق الأنفاس] . وهناك ذكصولوجية أخرى لعيد الغطاس تشدد على عنصر التجديد وذلك بوضوح جدًا: [الإله الوحيد جاء إلى الأردن. والصورة التي فسدت وماتت بالخطية جددها مرة أخرى بعماد الماء. ورّض رأس التنين على مياه الأردن] . وهكذا أتى المسيح لكي يؤسس هذا الانسجام الذي فُقد بعد سقوط آدم، وترك الإنسان ليحفظ هذا الانسجام ويوجده. فى تجلي المسيح على جبل طابور: إشارة إلى الإمكانيات الروحية للأشياء المادية. لقد ظهر مجد الله، في التجلي، كمجد طبيعي: إن النور الإلهي غير المخلوق ليس مجرد حقيقة رمزية أو غير منظورة، والتي تدرك بالذهن، لكن شيء يشع من خلال الأشياء المادية، والتي هي منظورة بعيون الإنسان الجسدية. لقد لمعا وجه المسيح وجسده، وليس فقط وجه المسيح ولكن ملابسه، وكانت مصنوعة بيد بشرية. في كل فترة حياة الرب على الأرض : نرى أيضًا نفس التشديد على الأشياء المادية، فعندما فتّح أعين المولود أعمى، بصق على الأرض وصنع طينًا (يو6:9). وأخذ المسيح، في سر الإفخارستيا، طعامًا ماديًا وشرابًا (الخبز والخمر) ـ إنها عناصر طبيعية ـ وقُدِّست بالروح القدس. أيضا تألم المسيح بجسده المادي، وبجسده هذا قام من بين الأموات وجلس على يمين الآب. وهذا يعني أن جسده صار " جسد روحاني" (1كو44:15) بدون أن يتوقف أن يكون ماديًا في طبيعته. وأيضا سيأتي بجسده هذا الممجد، لكي يدين الأحياء والأموات. ونحن أيضا سوف نقوم بأجسادنا، إذ سنظهر أمامه محاطين بالجسد المادي. وهكذا فإن الخلاص الذي يقدمه المسيح هو خلاصًا شاملاً للجسد مع النفس، للمادي وغير المادي. لا يوجد فداء حقيقي يلغي أو يحتقر الجسد. فنحن لا نعتقد بخلود النفس كما زعم اليونانيون، ولكن ننتظر قيامة الأجساد. وهناك مثال واحد في التقليد الكنسي عن العذراء مريم التي صعدت إلى السماء جسديًا وأصبحت القيامة الجسدية بالنسبة لها ليس رجاءً مستقبليًا لكن هو حدث قد تم. وحالتها هذه ليست فريدة لأن التقليد الأرثوذكسي يفسر حالتي العهد القديم: أخنوخ (تك24:5) وإيليا (2مل11:2) بأنها انتقال جسدي بنفس نوعية انتقال العذراء. أيضاً في الحياة الحاضرة كثيرون من القديسين أخذوا خبرة التجلي، وهم على الأرض بظهور النور الإلهي اللامع في أجسادهم مثل: الأنبا بولا والأنبا كاراس السائح وغيرهم من آباء أقباط في الأديرة المصرية " . وبالتأكيد فإن الإنسان ليس فقط مدعوًا بأن يأخذ هذه الخبرة، لكن سر التجلي لابد أن يمتد إلى كل العالم المادي بحسب تعبير القديس بولس، بأن الخليقة، بسبب سقوط الإنسان، تُوجد في "عبودية الفساد " وبواسطة الإنسان ستتحرر " إلى حرية مجد أولاد الله" (رو21:8). أعاد المسيح إلى الإنسان ملء دعوته كوسيط " لأن الخليقة كلها تئن وتتمخض معاً.." (رو19:8). أي أن الخليقة تتطلع إلى أن يحقق الإنسان رسالته كملك ورئيس كهنة عليها. وكما في الخلق الأول، هكذا في الخليقة الجديدة، فالإنسان مدعو أن يكشف مجد الله في العالم بعمله الإبداعى مع الخالق لكي يقدم " الأرض الجديدة " والتي تكلم عنها يوحنا الإنجيلي نبوياً في جزيرة بطمس ( رؤ21:1) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق