الأربعاء، 20 أبريل 2011







المحاكمة السياسية ليسوع



ج باترونس - استاذ العهد الجديد-جامعة اثينا ترجمة د جورج عوض



صباح الجمعة وبعد قرار مجلس المحكمة العُليا بالإجماع, ظهر في الكادر قيافا وأعضاء مجمع السنهدريم وجميع الشعب. وَوُضع أمام الرؤساء السياسيين وبالحري علي الوالي الروماني بيلاطس البنطي الإتهامات التي لدي رؤساء اليهود الدينيين ضد يسوع مشددين علي التوابع السياسية لهذه الإتهامات وصمتوا تمامًا عن الحديث بخصوص المحاكمة الدينية التي تمت مِن قبل. خبر القبض علي يسوع إنتشر إنتشار البرق في ذلك المساء من فم إلي فم في كل المدينة. وفي الصباح الباكر الكل خرج إلي الطرق طالبين أي معلومات تتعلق بمصير النبي الغريب ومعلم الناصرة الذي ترك أثرًا علي الشعب. الجو المحيط كان عدائي. وبينما الشعب إجتمع ليتابعوا الأحداث, بدأ في ساحة المحكمة تحقيق جديد ومحاكمة.
في أي ساعة بالضبط أُقتيد يسوع إلي الرؤساء السياسيين؟ لا نعرف, وفق الإنجيل الرابع كان يجب أن يكون في الصباح الباكر, بينما في إنجيل مرقس مباشرةً بعد إجتماع مجلس اليهود في الصباح (يو28:18. مر1:15). إنقياد يسوع في الصباح الباكر بشكل مستعجل أعطي إنطباع لبيلاطس أن الأمر هو خطير. لقد أُتهم يسوع أمام الرؤساء السياسيين بكونه ثائر بسبب نشاطه المتمرد ضد الرؤساء وإعتبار ذاته الملك الماسيا: " وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ»" (لو2:23). إن تسيس قضية يسوع من جانب الزعامة الدينية كان معتمدًا لكي يثير حصانة الرئاسة السياسية ولكي يتم تنفيذ جزاء الموت بدون أي تأخير.
لقد مرَّ علي بيلاطس كثيرون حتى ذلك الوقت بإتهام العصيان هذا وقد حُكِم عليهم بجزاءات مختلفة عن تمردهم ضد الرئاسة السياسية. كثيرون من هؤلاء, في الحقيقة نادوا بأنهم ملوك ماسيانيين لكي يخلقوا تضليل للمحكمة وكأنها نوع من التغطية الدينية. لأجل هذا أيضًا وجَّه مباشرةً بيلاطس سؤالاً كلاسكيًا (روتينيًا): "أأنت ملك اليهود؟" (مت11:27). أجاب يسوع إيجابيًا, لكن أعطي مفهومًا آُخرويًا واضحًا لماسيانيته: " أَجَابَ يَسُوعُ: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا»" (يو36:18). بيلاطس من هذه الإجابة إستخرج نتيجة مفادها أن الأمر يتعلق بمعلم شعبي غريب ومهووس دينيًا.
الإشارة من جانب المشرف العسكري والتي أُعطيت مباشرةً بأن يسوع أثناء القبض عليه لم يصدر أي إعتراض, كانت إضافة تؤكد أي نوع من الملوك كان المتهم يسوع, عندما سُئل وأيضًا فيما يتعلق بالمسئوليات السياسية "أفأنت إذن ملك؟" بدأ يُظهِر لمرة أخري أنه "أتيت إلي العالم لأشهد للحق" (يو37:18) ولا شيء أكثر من ذلك.
من هذه الإشارة يُدرَّك سؤال بيلاطس: "ما هو الحق؟". وفي النهاية لدينا أيضًا الإقتراح المستنتج من بيلاطس: "انا لست أجد فيه عِلة واحدة" (يو38:18), وبالتالي محضر الإتهام إنقلب والمُتهم أُعتبر برئ.
لكن اليهود المشتكون, هم حاسمون ومصرون علي قرارهم مضيفين علي ذلك أن يسوع قد خلق مشاكل إجتماعية شديدة في الجليل والآن يأتي لكي يجعل المشاكل والإضرابات الإجتماعية تمتد إلي اليهودية (لو5:23). عندما سمع بيلاطس أن يسوع كان جليلاً, إنتهز الفرصة ليرسل كل القضية إلي هيرودس أنتيباس الذي كان رئيس الربع في الجليل ومسئول عن المناطق الشمالية, وهكذا تخلص هو ذاته من ضغط اليهود لإصدار قرار الحكم.
وُجِد هيرودس, بسبب أعياد البصخة تلك الأيام في أورشليم كان بالفعل طاغيًا حقيقيًا ودعاة يسوع بـ "الثعلب". علي الجانب الآخر, قد سمع هيرودس الكثير عن نشاط يسوع وعن معجزاته وكان يرغب منذ زمن أن يراه من قريب, ربما أيضًا أمامه يصنع أي معجزة من المعجزات التي كان يرغب في رؤيتها. كان هيرودس هو الذي أمر بقطع رأس يوحنا المعمدان, ميزه عن يسوع أيضًا لأجل حقيقة ضعفة أن "يصنع معجزة" (أنظر لو9:9, يو41:10). إذن هيرودس هذا, وفق تقدير بيلاطس, سوف يقبل بسعادة إمتداد الإرادة السيادية هذه اللحظة علي يسوع لأنه كان جليليًا وأيضًا بسبب إهتمامه الشخصي المتعلق بالمعجزات (لو8:13).
فُرِض سؤال من جانب مفسرين كثيرين عن الأسباب الحقيقية التي جعلت بيلاطس يرسل يسوع إلي هيرودس. بالتأكيد لم يكن بيلاطس ملزمًا أن يرسل المتهم لكي يُحاكم من رئيس الربع, طالما قُبض عليه علي أرض تحت سيادته وسلطانه. إن مشاكل تفسيرية قد نشأت من حقيقة ذكر إرسال يسوع إلي هيرودس فقط من جانب إنجيل لوقا (4:23ـ12). لأجل هذا يوجد أيضًا مفسرون يشككون في الملمح التاريخي لهذا الحدث. لكن حدث أو واقعة يمكن أن تُذكر فقط من إنجيلي أو آخر, لا يُعتقد أن هناك سبب جاد للشك في جدارتها التاريخية. لو تتبعنا مثل هذا الأسلوب, حينئذٍ كان يجب أن نرفض معظم حوادث ووقائع العهد الجديد بأنها غير جديرة. علي الجانب الآخر, كل الصفات المتعلقة بأشخاص الواقعة والتفاصيل والأوصاف للحوادث تتجاوب تمامًا مع الواقع. إنه من الأمر الواقع, أن لوقا, حقًا كان لديه "تفضيل خاص" تجاه رئيس ربع الجليل ودائمًا يذكر إسمه, علي النقيض مع بقية الإنجليين الآخرين متى ومرقس اللذين صمتا عن الحديث عنه (أنظر لو3:8, 19:9, 31:13).
يسوع أيضًا الآن, في مقابلته معهم مثلما أيضًا قديمًا (لو32:13), يواجه بهدوء عظيم هيرودس, لم يعطي أي إجابة علي تساؤلاته ولا يُرضي فضوله بخصوص معجزة ما مؤثرة. هيرودس بدوره يستدعي قوته ويؤكد ليسوع سلطانه عليه وبعد ذلك يحاول أن يحتقره بأمور وضيعة متنوعة (لو11:23) وعندما فشل في محاولاته أن يثني يسوع, أرسله مرة أخري إلي بيلاطس لكي يُحاكم من مسئول المنطقة التي تم القبض فيها علي يسوع. وقد سجل الإنجيلي لوقا جزئية تفصيلية بأن الأثنين هيرودس وبيلاطس, كانا متخاصمان ويعادي الواحد الآخر والآن صارا "أصدقاء" بسبب قضية يسوع. الملاحقات بالإستهزاءات والسخرية ضد هذا الغريب والثائر بدون أتباع, وحدَّ في النهاية, الأثنين السياسيين المتخاصمين.
عندما رأي بيلاطس, أن يسوع يأتي ثانيةً, أُجبر هذه المرة أن يتوجه رسميًا لرؤساء الكهنة والشيوخ والشعب ويعلن نتائج تحقيقاته وقناعاته الشخصية المتعلقة بالمتهم ذاكرًا في نفس الوقت تقدير هيرودس للقضية برمتها: "فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ، وَقَالَ لَهُمْ:«قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضًا، لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ" (لو13:23ـ15). بعد هذا الإعتراف الرسمي ببراءة يسوع والإعلان الجهاري بنتائج التحقيق, كُنا نتوقع منه هذا الذي كان يمارس سلطة سياسية عالية أن يحرَّر مباشرة المقبوض عليه.
لكن خاف بيلاطس من الرؤساء الدينيين وإعتراضاتهم ورد فعلهم بخصوص براءة يسوع ولأجل هذا بدأ يتفنن في عمل أفعال إضافية متنوعة لكي يرضي غضب وحنق اليهود, حتى في النهاية يحرر المتهم. الفعل الأول إتجه ناحية عقاب يسوع جهارًا بالتأديب والجلد ثم إطلاقه (لو16:23). ثم بعد ذلك, إقترح وفق العُرف المتبع أن يُطلق شخص محكوم عليه حرًا أثناء أعياد البصخة, آملاً في أن الشعب يطلب إطلاق يسوع. يخبرنا مرقس الإنجيلي أن الشعب لديه هذا الحق في الإختيار أو تفضيل الإفراج عن شخص معين (مر6:15). طرح بيلاطس أسمين للإختيار إما يسوع أو باراباس, معلم إسرائيل أو متمرد معروف لأورشليم, وإرتكب سرقات وجرائم متنوعة (يو40:18) وحُكم عليه بالقتل وكان هذا معروفًا للجميع (مر7:15). كانت رغبة بيلاطس أن يستعفي من هذه القضية ويعطي الحق للشعب في الطلب المباشر لإطلاق يسوع
.
لكن الشعب وهو متأثر بأعضاء السنهدريم فضَّل باراباس بدا أن يسوع في نظرهم ليس له أي فائدة قياسًا بأفكاره الماسيانية التي لم ترض أحد, أما باراباس الغيور بالنسبة لهؤلاء يمكنه أن يقدم شيئًا بالأكثر في المستقبل للأمة, بحركة جديدة يكونها, بينما يسوع قد إقتنعوا أنه لن يضيف شيئًا في إتجاه التمرد علي السلطة السياسية. منتهي السخرية التراجيدية, الشعب يفضل باراباس, لص وقاتل, علي إنسان بارئ, يسوع الذي أتي لكي يخلص العالم.
أيضًا إخبار بيلاطس من جانب زوجته أن لا يأخذ قرار الإدانه ضد يسوع, لأن طوال الليل عُذبت من أحلام مفزعة (مت19:27), لم يستطيع أن يغير القرار. وأُجبر بيلاطس بعد كل هذا أن يقرر مباشرة موت يسوع. لكن وفق بعض التفصيلات التي وردت عند لوقا ويوحنا, بذل بيلاطس محاولات أخري لكي يقنع الشعب ويطلب براءة يسوع (يو16:23, 1:9,... الخ). الإعتراف العلني ببراءته التي فعلها من قبل كان إضافة صعبة للجنة الدينية أن تمضي في قرار الإدانة ولذلك أصّر بمحاولاته أن يثير هذه المرة بالأكثر عطف الجمع. حسنًا, أعطي أمرًا أن يجلدوا مجددًا يسوع, أن يضعوا تاجًا علي رأسه من الشوك وأن يقودوه في موكب أمام بصر الكل, كملك مأسوي لليهود لكن هذا الجمع المتعصب لم يتأثر.
الجلد كان في العصر الروماني نوع من العقاب الثقيل للمذنبين (راجع 1كو24:11). ومن المعروف, أن كثيرين أثناء الجلد إنتابهم الموت. دائمًا, صورة إنسان مجلود بجراحات مفزعة علي جسده, المخضب بالدماء وعلي وشك الإنهيار, يثير الشفقة والرأفة. لكن رؤساء الكهنة لا يتفقون مع الرئيس السياسي الذي أظهر مشاعر إنسانية تجاه مجرم والشعب ظل غير متأثر وحرَّض بيلاطس صارخًا "أصلبه أصلبه" (لو21:23).
هنا يُقصَّد بالجمع علي الأرجح خُدَام رؤساء الكهنة, الغيوريون والحُراس وليس الشعب الذي دائمًا كان من السامعين والمعضدين ليسوع. أيضًا الصلب كان شكل معتاد لجزاء الموت علي اليهودي في هذا العصر, بالحري لمجرم لم يكن مواطن روماني, فالصلب كان عقابًا للعبيد وغير الأحرار والجزاء الكبير للمتمردين, ويسوع علي إعتبار أنه "مجدف" و"نبي كاذب" و"ملك مسياني كاذب" و"متمرد", بحسب محضر التحقيق الخاص برؤساء اليهود, كان يجب أن يموت كعبد علي الصليب (مر14:15, يو6:19,....الخ). هكذا في النهاية الحكم السياسي مثل أيضًا الديني إنتهي إلي موت يسوع بواسطة الصليب. رئيس الكهنة قيافا رتب الأمور وإستغل خوف وضعف بيلاطس ونجح في الفوز بحكم الموت ليسوع علي حساب مصالح قيصر: "إن أطلقت هذا فلست مُحبًا لقيصر كل مَنْ يجعل نفسه مَلِكًا يقاوم قيصر" (يو12:19). كان بيلاطس يخاف دائمًا من المقارنة أو التوازي بينه وبين قيصر حيث كان دائمًا يطمع في رضي الإمبراطور. كان قيافا شريرًا وإنسانًا خطيرًا وكان في إمكانة أن يخلف مشاكل كثيرة. إن مفسرين كثيرين حاولوا أن يعطوا إجابات مختلفة في هذا الموضوع: من جانب وصف بيلاطس يسوع بأنه برئ ولم يرغب التورط في قرار الإدانة ومن جانب آخر أسلم البرئ إلي الموت.
بالنسبة لبيلاطس, فيما عدا الإنجليون, فيلون اليهودي ويوسابيوس تحدثا عنه بدون إستخدام أقوال نفاق ومداهنة. كان من المعروف, أن هذا الرئيس السياسي لليهود قد أتي في عدم رضي للبلاط الإمبراطوري, بسبب فوضي إدارية. عمومًا كانت نهاية كل المهزلة أن يُسلم يسوع لأيدي أثمة, بينما اليهود مع رئيس كهنتهم والزعامة الدينية يدخلون في نوع من الطاعة وعبادة للأمبراطور وأيضًا في هذه المدينة المقدسة أورشليم قاد الكُرة ضد يسوع هذا الشعب الذي كان يرغب في إطلاقه من الرومان أن يعلنوا بواسطة فم رئيس الكهنة "ليس لنا ملك إلا قيصر" (يو15:19). لقد حقق بيلاطس نصرًا سياسيًا غير متوقع, فالزعامة الدينية التي إتهمت يسوع بأنه عاصي, أُقتيدت هي ذاتها إلي أسوء أشكال العصيان, ليس فقط من الجهة الدينية بل أيضًا من الجهة القومية. وهؤلاء الناس بالتأكيد كان لديهم الإدراك والوعي التام بخطورة فعلهم هذا. لكل البغضة والحقد تجاه يسوع قادهما إلي هذا التعضيد غير المقبول للسلطة السياسية. بعد كل هذا, سُلِم يسوع من الرئيس السياسي لأيدي اليهود لكي يُصلب (يو16:19).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق