الجمعة، 27 مايو 2011



19ـ ما هي خبرة الشركة والاتحاد ومعاينة الله ؟
الاب رومانيدس – ترجمة د جورج عوض
لدينا في التقليد الغربي اللاهوت المدرسي للعصور الوسطي الذي يخلط بين المخلوق وغير المخلوق، المتغير وغير المتغير. بالنسبة لهؤلاء صار تطابق بين الأثنين ، فتعاليمهم هي تعاليم أرسطو وأفلاطون.
أرسطو يتحدث عن وجود 49 جزء لا يتحرك وهي طاقة تمامًا ولا تتحرك بمفردها بل يسببون حركة لآخرين. ويُحَرِكون الآخرين بواسطة الجذب، مثل المغناطيس. الحيوية هي تلك التي تحقق الحركة في كل مكان يوجد بواسطة هذه البداية الحية (المجال الحيوي). مثلاً بذرة الشجرة التي هي إمكانية ان تكون شجرة، عندما تقع في الأرض وتجد ظروف مناسبة للنمو، تنبت وتصير طاقة (فعل) شجرة. هكذا البذرة هي قدرة او امكانية ان تكون شجرة، لكن لم تكتمل بعد، لأن نمو مجالها الحيوي في داخلها لم يكتمل (أي تصير كاملة)، اى يتحقق عندما تصير شجرة.
لكن توجد بحسب أرسطو غير المتحركات ακίνητα تتحرك، ولا لديها في داخلها هذه الإمكانية بل هي من طبيعتها طاقة (فعل) تمامًا. وينادي بأنه دائمًا كانت توجد وسوف توجد وتُحَرِك الكل بواسطة الجذب. كل شيء يتغير من الإمكانية إلي الفعل يسير تجاه كماله وقوة الجذب التي تقود هذا الكمال كبداية لها ،فغير المتحركات تُحرَّك τά ἀκίνητα κινοῡντα. هذا ما يقوله أرسطو.
الآن نري عند الأفلاطونيين الحُداث نفس الأفكار بخصوص هذه المواضيع، أقصد أفكار أرسطو. لم ينشغل أفلاطون بهذا الموضوع مما نعرفه. لكن عند آباء الكنيسة نري القديس ديونسيوس الأريوباغي، الذي أُتهم أنه متأثر بأفلاطون والأفلاطونية المحدثة، الذي يقول لنا بوضوح أن الله ليس فقط غير متحرك يُحَرِك، بل هو أيضًا متحرك. أي الله ليس فقط يُحَرِك الكل بل هو ذاته يُحرَّك، أي لدي الله أيضًا عنصر سلبي في داخلة. هذا بالتأكيد قد كتبه ضد أتباع أرسطو والأفلاطونية المحدثة. لكن هذا هو برهان واضح بأن القديس ديونسيوس الأريوباغي ليس لديه أي علاقة مع الأفلاطونية المحدثة بالرغم من أنه إستخدم لغة أتباع الأفلاطونية المحدثة. إذن هذه الفكرة بأن الله ليس فقط غير متحرك يُحَرِك بل أيضًا متحرك والتي هي هرطقة بالنسبة لأتباع الأفلاطونية المحدثة وأرسطو، يعني أن الآباء لم يتفلسفوا، طالما يتخطون مبدأ عدم التناقض. بالنسبة للآباء تعبير أن الله هو غير متحرك يُحَرِك وأيضًا متحرك، يعني أنه لا توجد ترتيبات (مستويات) بشرية تُنسب إلي الله، كذلك لو أن هذا حدث فعندئذٍ نقع في تناقضات منطقية. لكن هذه هي الحقيقة عن الله لا تأتي من الفلسفة بل من خبرة الاتحاد. لماذا؟ لأنه ما الذى يعرفونه الآباء من خبرتهم ؟ يعرفون أن المفاهيم التي نستخدمها عن الله، تبطل عندما نكون أمام الله ذاته، أي تلك الحقيقة التي هي الله ذاته.
بالتالي المفاهيم عن الله، التي نستخدمها هي فقط رسائل لكي تساعد شخص أن يري الله. عندئذٍ، عندما يري أحد الله، الإيمان والرجاء يُبطلا وتبقي فقط المحبة. هذا ما يقوله بوضوح بولس الرسول (أنظر 1كو13:13). أي الإيمان بالله مع مفاهيم هذا الإيمان وكذلك الرجاء بالله مع كل مفاهيم هذا الرجاء، تبطل عندما يري أحد الله، الذي هو محبة . المفاهيم تُستبدل عندئذٍ من منظر المحبوب ذاته. عندئذٍ الإنسان يُمجَّد، أي يري المسيح في المجد ويشترك في مجد المسيح والإتحاد بالله.
الناس عادةً يواجهون أخوتهم في الإنسانية علي أساس الثقافات التي يدركها هؤلاء. علي النقيض، ذاك الذي يتقابل (يتجاوب مع) المسيح، بحسب خبرة الاتحاد، هو ما يعلنه المسيح بطبيعته الإلهية الإنسانية الممجدة، ولا يستطيع هذا الشخص أن يتمسك في ذهنة بأي مفهوم بشري أو معرفة سابقة قد شكلها عن المسيح، لأنه لا يوجد شيئًا مطلقًا في الخليقة المادية وغير المادية،شيء مخلوق مع مجد المسيح غير المخلوق، والذي يراه. فهو يقبل المسيح كما يراه.
ولا يمكن أن يصفه ولا يتحدث عنه بموضوعية. لأنه لا توجد كلمات بشرية تستطيع أن تصف حقيقة المسيح غير المخلوقة، حقيقة طبيعة المسيح الإلهية. وذلك لأنه لا يوجد أي تشابه بين المخلوق وغير المخلوق.
هنا يجب أن نشدد علي الآتي:
خبرة الاتحاد في التقليد المسيحي ليست لها أي علاقة مع أي نوع من الدهش والانخطاف العقلى . ليست هي دهش ولا تعمل بذهنية الإنسان فقط، لأنه وفق خبرة الاتحاد يشترك كل الإنسان وجسده بكل حياته في وظيفتها التامة. الإنسان، عندما يري المسيح في مجده، يُوجد في حالة يقظة تامة. بالتالي عقل أو فكر الإنسان لا يري هذا المجد فقط بل جسد الإنسان يري أيضًا.
لو قرأتم سفر أيوب، سوف ترون هناك أن جسد أيوب رأي الله: "بسمع الأُذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني" (أيوب5:42). بمعني يشترك أيضًا جسد أيوب في رؤية مجد الله. هذه الجزئية هي تقليد عبراني جميل جدًا. أثناء فترة تمجيد الإنسان، أقصد الإنسان أثناء خبرة معاينة الله لا يفقد جسده تواصله مع الوسط المحيط. لكن هذا علي أساس أن الإنسان ـ من خبراته السابقة المثيلة ـ قد إعتاد علي رؤية مجد الله. فقط في البداية أثناء الخبرات الأولي يخرج الإنسان عن إتجاهة ويمكن أن يفقد الرؤية مؤقتًا من شدة بهاء النور غير المخلوق بدون أن يفقد أحاسيسه الذهنية. الجانب العقلى يفكر بشكل عادي، مثلما يفكر أي أحد. لكن أحاسيسة الجسدية يمكن أن تعاني تغير، لأن الإنسان ليس مازال معتاد علي النور غير المخلوق، وعماه المؤقت، كما حدث مع بولس الرسول، عندما رأي للمرة الأولي المسيح الممجد في طريقة إلي دمشق وقتذاك لم يصاب بالعمي بمفهوم أن عيناه دُمرِت، بل أصابه العمي مؤقت من شدة بهاء النور، أقصد نور مجد المسيح. وعندما إستعاد أحاسيسة، عندئذٍ رأي ثانية كالعادة. أي لم يحدث له أي معجزة ورأي مرة أخري. ببساطة لم يري لفترة لأن عيناه قد فقدت مؤقتًا القدرة علي الرؤية من النور المبُهِر.
النور غير المخلوق، عندما يُريَّ، هو أقوي من نور الشمس وله طبيعة أخري. نور التجلي كان نفس الشي. لكن هذا النور ليس هو نور مثل أي نور نعرفه. لماذا؟ لأنه يسمو علي النور!
الإنسان الذي يُوجد في حالة المجد هذه، عندما تعبر رؤية النور، يستمر في صُحبة الناس المحيطون به للفترة التي فيها فعل معاينته للنور مستمر فيه.
هذا ما نراه بوضوح في حياة القديسيين. بمعني نري، عندما يُوجدالإنسان في حالة فوق طبيعة، يستمر في مصاحبة الآخرين حوله بإختلاف وحيد أنه لا يأكل، لا يشرب، لا ينام، لا يذهب لأي إحتياج طبيعي أثناء فترة الحالة هذه، لأنه يُوجد في حالة فوق طبيعيه وتحفظه نعمة الروح القدس في الحياة فقط. بالتالي، لو أن هذه الحالة إستمرت لـ 40 يوم و40 ليلة، كما حدث مع موسي علي جبل سيناء (أنظر خر28:34ـ31)، هذا الإنسان لأيام كثيرة لا ينام، ولا يتعب ولا يأكل ولا يشرب...الخ. أي إنه حُر من كل الرغبات غير الشريرة ἀδιάβλητα πάθη ، رغبات الجسد الطبيعية. وهذا يحدث، لأنه يصير وقتذاك توقف لوظيفة النظام الساقط وكذلك للنوم والإنسان يصير ملاك أرضي ἐπίγειος ἄγγελος. لكن فيما عدا ذلك فهو يتصرف مثل الآخرين.
في التقليد الشعبي وبالحري في القري أثناء فترة الإحتلال التركي لأجزاء من آسيا الصغري، لدينا أوصاف لهذة الحالة حيث كاهن القرية كان يُوجد في مثل هذه الحالة أثناء الليتورجية الإلهية. لكن كان يستمر في القراءة والتسبيح والصلوات وإتمام الليتورجية. لماذا؟ لأنه، في حين أنه أثناء خبرة المعاينة تتوقف الصلاة الذهنية، أي الصلاة القلبية الدائمة، لكن هذا لا يعني أن العبادة العقلية تتوقف إجباريًا، أقصد الصلاة العقلية، الصلاة التي تصير بالعقل، بالفكر، طالما انها تصير لوعظ الآخرين. بالتأكيد بالنسبة لنفس الكاهن الذي يحيا خبرة الاتحاد أثناء الليتورجيا الإلهية لا يحتاج للصلاة العقلية، لكن الآخرين يحتاجونها، الآخرين الذين يتابعون الليتورجيا. هكذا الكاهن يستمر في إتمام الليتورجيا الإلهية ويتممها.
أوصاف التقليد الشعبي هذه يستهزء بها بعض أساتذة اللاهوت في الجامعة، بدون أن يعرفوا أن التقليد الشعبي في هذه المواضيع هو داخل إطار خبرات الإستنارة والمعاينة، ويوجد خلفها تقليد آبائي كامل، يفسر لنا لاهوتيًا هذه الظواهر.
إذن نري في هذه الظواهر انه ليس لدينا أي تطابق بالدهش الذي كان لدي أتباع الأفلاطونية المحدثة، لو وضعنا في حسابنا ما يقوله يوستينوس الشهيد والفيلسوف كمفتاح لتفسير تعليم المدرسة الأفلاطونية الوسيطة. لأنه يوجد الرأي، بين مؤرخي الفلسفة أن الأفلاطونية ليست ديانة ، فالأفلاطونية تدينت بالأفلاطونية المحدثة.
لو قرأنا يوستينوس الشهيد، هناك في "الحوار مع تريفون"، في البداية وصف القديس يوستينوس كيف صار هو نفسه من أتباع الفلسفة الأفلاطونية، كيف وَجِد فيلسوف أفلاطوني كان يعلمه وإنتظر من لحظة للحظة أن يري الله! هذا يعني أن يوستينوس الشهيد، الذي عاش فترة قبل ظهور الأفلاطونية المحدثة، ينشغل بالرياضة الروحية وآمن أن بواسطتها من لحظة للحظة سوف ينتابه الدهش وأنه هكذا سوف يري الله!
هذا يعني أن معلمه لم يكن فيلسوف عادي بل بالحري نوع من الأب الروحي ـ والذي كان يقودة لخبرات دينية والتي بالنسبة لنا ما هي إلا خبرات شيطانية. عند اللاهوتيين الهدوئيين صارت مناقشة كبيرة عن هذه المواضيع. هكذا نري غريغوريوس بالاماس يتهم خبرات الأفلاطونيين الدهشة كخبرات شيطانية. اليوم، لأن هذه المصطلحات، كلمة "شيطانية" لا تعني شيء إيجابي عند البعض، يمكن أن نستبدلها بكلمة ظواهر نفسية وفق مصطلح علم النفس الطبي اليوم، لأنه حقًا هذه الأمور هي أوهام تنتاب الذين يطلبون الدهش العقلى. لكن بالنسبة لآباء الكنيسة كل هذه الأمور هي ظواهر شيطانية تمامًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق